بصورة متقطعة، تتناول دول الاتحاد الأوروبي موضوع الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية عضوا في منظمة الأمم المتحدة. «بصورة متقطعة».. كل المشكل يكمن هنا، كانت فرنسا قد أعربت عن رغبتها في دعم الخطوة قبل سنوات، وعاود الرئيس ماكرون الخوض في المسألة خلال زيارة قام بها إلى الأردن في شهر فبراير/شباط الماضي، حين ذكر أن «الموضوع ليس تابوها على فرنسا»، لكن بين التصريحات وحسن النوايا والممارسات الميدانية فجوة تزداد هوة بازدياد نهج التأرجح والتهور المحكوم دائما وأبداً بالكيل بمكيالين، إلا في إسبانيا على ما يظهر، فقد أثبت البلد خلال السنوات الأخيرة خبرته وجدارته، بل مهنيته في معالجة أزمات صحية مثل جائحة كورونا، أو اجتماعية كالتحرش.
بكل تأكيد، وهي تشارف على مرور نصف قرن، بعد زوال نظام فرانكو الاستبدادي، دخلت إسبانيا معتركا جعلها تؤصل ثقافة ديمقراطية واقتصادية، وأيضا اجتماعية وحقوقية، أرست لها أرضية خصبة حددت ملامح ديمقراطية حديثة، لكن بخصوصيات أهمها، إعطاء زخم وإشعاع لقطب أوروبي جنوبي لا يزال أسير صورة الفقر والتأخر.
أبان الصراع في غزة عن أن أوراق الدبلوماسية التقليدية ضعفت إلى أقصى حد، بحيث لن تكسب أمريكا أية معركة بنبرات الوعد والوعيد المعتادة
ليس من الإفراط، الحديث عن معجزة إسبانية وعن نموذج إسباني، وفي مجال الدبلوماسية الدولية تتعزز مكانة إسبانيا، باقتناص فرصة زيارة رئيس وزرائها بلد ثقافة الاعتدال والانفتاح، الأردن، لإعلان المشروع الرئيسي الحالي للسياسة الخارجية الإسبانية: «منح وضع رسمي لدولة فلسطينية مستقلة في غضون الستة أشهر المقبلة». بكل تأكيد، تعجل تصريحات سانشيز من تبلور جدول الاعتراف بدولة فلسطينية، وهو جدول تشارك فيه أيرلندا، سلوفينيا ومالطا (التي تتولى حاليا رئاسة مجلس أمن الأمم المتحدة، والمقبلة في الإطار ذاته على التقدم بطلب اعتراف أممي رسمي لدولة فلسطين). ثلاث عشرة دولة هو عدد الدول الأوروبية التي منحت فلسطين رسميا منزلة الدولة السيادية المستقلة. إسبانيا لم تفعل بعد، لكنها أدرجت المبادرة ضمن برنامج دبلوماسي متكامل انطلق قويا سنة 2023، حين عقد رئيس الوزراء الإسباني مؤتمرا صحافيا في معبر رفح، وبمعيته نظيره البلجيكي ألكسندر دو كرو، ما أدى وقتها إلى استدعاء إسرائيل سفيرتها في مدريد. ثم تواصل التزام الحكومة الإسبانية بمشاركة وزير النقل مصحوبا بخمسة أعضاء من التحالف الحكومي في مظاهرة للمطالبة بوقف لإطلاق النار. إسبانيا بصدد كتابة فصول دبلوماسية جديدة غير مسبوقة يمكن تسويقها – الكلمة ليست متدنية – فبدخولنا زمن العولمة دخلنا زمن التسويق، بما فيه تسويق مناهج وخطط في المجال الدبلوماسي- وإذا أضفنا صوت البرتغالي أنطونيو غوتيريش إلى صوت القيادات الإسبانية الرئيسية، فقد أصبح في وارد الإمكان أن نتحدث عن بروز دبلوماسية أوروبية بديلة في الجنوب، وإن كانت ألمانيا غير بعيدة عن هذا الأسلوب، إذا نظرنا إلى موقفها الداعي إلى التفاوض في الصراع الأوكراني. أجل، لقد أبان الصراع في غزة عن أن أوراق الدبلوماسية التقليدية ضعفت إلى أقصى حد، بحيث لن تكسب أمريكا أية معركة بنبرات الوعد والوعيد المعتادة.
هناك من المعتقدين، اعتقادا راسخا بأن قيام إدارة أمريكية جمهورية مجددا ستخدم، ولو على سبيل المفارقة، مصالح دبلوماسية أوروبية، حيث سنجد من جهة إدارة أمريكية تحصر دبلوماسيتها في المنطقة، في المجال الذي تتحكم فيه أكثر: الجانب الاقتصادي المتمثل في المضي قدما بالاتفاقيات الإبراهيمية، بينما تظل الدبلوماسية الأوروبية محكوماً عليها بالتحرك باستقلال متنام، على ضوء تحذيرات ترامب برفع يده عن أي شكل من أشكال الدعم المادي المقدم لحلف الشمال الأطلسي، ما قد يعزز دور الوساطة المنتظر من المجموعة الأوروبية.. وربما بقيادة إسبانية..
والأيام بيننا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي