مع الزمن تطور الحديث عن حرب تقليدية وشيكة داخل أوروبا ليصبح أكثر من سر تهمس به دوائر التفكير والقرار السياسي. لقد قرر الماسكون بزمام الأمور إلقاء الكرة إلى الرأي العام الأوروبي واختبار جاهزيته النفسية والمعنوية ومدى استعداده للتضحية.
روسيا، وبالتحديد الرئيس فلاديمير بوتين، هما أول المتهمين في الحرب «المقبلة» داخل أوروبا. لكن التحذيرات لا تحدد من سيبدأ الحرب. ربما تبدأها أوروبا على روسيا.
في دوائر القرار والتخطيط العسكري والاستراتيجي يُرددون أن هذه الحرب ستقع خلال الخمس إلى عشر سنوات المقبلة. ويرددون أيضا أن الصراعات الإقليمية المتناثرة عبر العالم تشبه تلك التي سبقت شرارة الحرب العالمية الثانية.
السويد وفنلندا والدول الأوروبية التي تتقاسم حدودا مع روسيا أكثر قلقا من غيرها من موضوع الحرب. واستطرادا هي الأكثر استعدادا ووضعا للاحتمالات.
بريطانيا لا تختلف كثيرا رغم البُعد الجغرافي نسبيا. هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) نشرت في منتصف الأسبوع الماضي تقريرا تضمن تحذير قائد الجيش، الجنرال باتريك ساندرس، من أن على بلاده خصوصا وأوروبا عموما البدء في الاستعداد للحرب المقبلة. وزير الدفاع البريطاني، غرانت شابس، حذّر هو الآخر من أن أوروبا ومعها بريطانيا، تسير من فترة ما بعد الحربين (العالمية الثانية والباردة) إلى فترة ما قبل الحرب (المقبلة).
منذ الحرب العالمية الثانية لم تشهد أوروبا حربا داخل فضائها الجغرافي إلى غاية تسعينيات القرن الماضي. ورغم أنها جرت في البلقان، بدت تلك الحرب بعيدة نسبيا وحسمها الأوروبيون ومعهم حلف شمال الأطلسي بسهولة لصالحهم. ثم عادت المجتمعات الأوروبية إلى إيمانها المتجذر بأن الحروب من اختصاص الجيوش وحدها ومن نصيب الآخرين فقط وبعيدة عنها دائما إلى أن حل شباط (فبراير) 2022 والغزو الروسي لأوكرانيا.
لذلك يتمحور الحديث اليوم حول شيء غير مألوف: تكوين جيش من المواطنين وإشراك المجتمعات في الحرب. لأن التجنيد العسكري التقليدي مكلف ومحدود النتائج ويُبقي موضوع الحرب في إطار مغلق، يجري التفكير في إشراك المجتمع. كما أن «نجاح» التجربة الأوكرانية، كما يزعم الأوروبيون، أثبت جدوى إشراك المجتمع بنسائه ورجاله كلٌّ حسب قدراته وظروفه.
الجنرال ساندرس استعمل عبارة «التعبئة العامة» وقال إن الحروب اليوم تبدأها الجيوش العسكرية وتحسمها جيوش المواطنين. ثم أسهب في شرح المطلوب من الناس العاديين عندما تبدأ الحرب.. إسناد القوات النظامية والتطوع في خدمات الطوارئ والإيواء والإطعام والطبابة والمعلومة.. إلخ.
الصراعات الاجتماعية والقلاقل التي ترتبت عن حرب إسرائيل على غزة البعيدة آلاف الأميال عن أوروبا، تبعث على الخوف على أوروبا أكثر من بوتين وخططه مهما كانت شيطانية
تبدو مسألة الحرب راسخة في أذهان المعنيين بها. كما تبدو قابلة للتسويق بين العسكريين والمهتمين بالشأن الاستراتيجي والسياسي. وتبدو أسهل للتسويق بين كبار السن الذين عايشوا بعض فصول الحرب الباردة وإنذاراتها المتكررة. لكنها تصطدم بالمستوى السياسي لأن الكثير من القادة السياسيين الأوروبيين ينتمون إلى جيل لم يعش الحربين العالمية الثانية والباردة، وبالتالي يجد صعوبة في استيعاب المخاطر المقبلة وإحداها حرب داخل أوروبا.
تقرير «بي بي سي» أورد أن القضية تتعلق بصراع أجيال. ونقل عن وزير بريطاني سابق يبدو في خريف العمر تأكيده ذلك. وفصّل الوزير المخضرم قائلا إن ريشي سوناك (من مواليد 1980) وُلد ونشأ من دون أن يختبر ما سماه الوزير السابق «الخطر الوجودي» الذي أحاط بأوروبا أثناء الحرب الباردة.
في المقابل، هناك اتجاه يتحدث عن «خيال علمي» ومبالغة في تخويف الناس وترويعهم. دعاة هذا الطرح من الجيل الجديد الذي يعاب عليه أنه نشأ في قارة (أوروبية) ألغت من جدول أولوياتها احتمالات الحروب على أراضيها.
هذه المخاوف دفعت دولا أوروبية، بينها السويد، إلى بدء العمل بنظام التجنيد الإجباري كما هو الحال في الكثير من دول العالم. بعد انتهاء فترة التجنيد القصيرة نسبيا يعود المجندون (والمجنّدات) إلى حياتهم لكنهم يُسجّلون في قوائم الاحتياط للاستعانة بهم عند الحاجة.
يبدو المشهد في فنلندا أكثر صرامة قياسا بالوضع العام في الغرب. نحو 80٪ من سكان البلاد يخضعون للتجنيد الإجباري. التهرب تترتب عنه متابعة قضائية قد تنتهي بصاحبه في السجن. ربما يعود تشدد فنلندا إلى الخطر الذي تشعر به سلطات هذا البلد المبتلاة بنحو 1300 كلم من الحدود مع روسيا، وإلى تجربة أوكرانيا المروّعة. ليس واضحا بعد هل سيتغيّر شيء في هذا الصدد بعد انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي وفي أيّ اتجاه. نتيجة هذا التحوّل أن فنلندا الصغيرة تمتلك أحد أكبر الجيوش في أوروبا مع قوة من الاحتياط يناهز تعدادها الـ240 ألف رجل وامرأة.
أرى في انتشار التحذيرات الصريحة من حروب تقليدية داخل الجغرافيا الأوروبية خليطا من الواقعية والخيال. الواقعية هي أن أوروبا اقتربت فعلا من حرب حقيقية مع الغزو الروسي لأوكرانيا، وأيقنت أن لا شيء سيوقف بوتين عن خططه إذا ما تطلبت مصلحة روسيا وأمنها التحرك. لكن هذه الحرب، إذا ما وقعت، ستكون مرحلية ومحدودة لأن بوتين لن يغامر بمواجهة أوروبا كلها بسبب اختلافها الكلي عن أوكرانيا القريبة من روسيا استراتيجيا وسياسيا وتاريخيا ونفسيا وثقافيا.
أما الجزء الآخر في الموضوع، فيكمن في رغبة القادة الأوروبيين، خصوصا العسكرييين منهم، في إيقاظ المجتمعات والزج بها في الشأن العام بعد عقود من الرفاه و«اللامسؤولية» تجاه الأوطان (عدا دفع الضرائب).
من الصعب إنكار أن لأوروبا مشاكل أخرى أكبر من روسيا وحربها المزعومة. أبرز هذه المشاكل وصول الديمقراطية الغربية إلى نهايتها وغياب البديل. هناك أيضا الأزمات الاقتصادية وتبعات الهجرة وغياب الثقة الذي ينعكس منافسة شرسة حتى بين دول الاتحاد الأوروبي في الظفر بالصفقات الاقتصادية والعسكرية عبر العالم. أوروبا تعاني أيضا من أزمة هوية ومشاكل ثقافية وانهيار الثقة في مؤسسات الحكم والأحزاب وانكفاء السلطات المضادة وتنظيمات المجتمع المدني وانتشار الفكر المتعصب والجنوح نحو اليمين القومي الشعبوي.
هناك أسباب أخرى للتوتر الداخلي منها عجز أوروبا عن استيعاب تناقضاتها القديمة والحديثة. الصراعات الاجتماعية والقلاقل التي ترتبت عن حرب إسرائيل على غزة البعيدة آلاف الأميال عن أوروبا، تبعث على الخوف على أوروبا أكثر من بوتين وخططه مهما كانت شيطانية. انكشاف أوروبا وعجزها المفضوح حيال الإبادة التي تمارسها إسرائيل على سكان غزة لا يمكن إلى أن يعمّق مصائب أوروبا.
هذه وصفة لانفجار أوروبي داخلي أخطر من حرب تعرف عدوك فيها ونواياه سلفا.
كاتب صحافي جزائري