لا أحد باستطاعته
أن يقرأ إلى النهاية
كتاب الليالي
إنه الزمن، وهو لا ينام،
اذهب وواصل القراءة
في ما النهار يموت
شهرزاد سوف تروي لك قصتك
هذه الأبيات المنثورة ليست لشاعر عربي، إنما هي للأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، أحد اللامعين من أدباء أمريكا اللاتينية في القرن الماضي، وأحد المتأثرين منهم بصفة خاصة بالتراث والأدب العربيين. لا بألف ليلة وليلة فحسب ـ مثلما يتضح في الأبيات – لكنه أيضا تأثر بالكثير من المرويات السردية العربية، وتأثر بالقرآن وبالشعر العربي وبالسير وبحضارة العرب الإسلامية في الأندلس. وإلى هذا يشير في قصيدة أخرى كتبها بعد جولاته المتكررة بين أروقة قصر الحمراء في غرناطة، ومقاصيره، وردهاته، والحدائق المحيطة فيه، ومنها جنة العريف:
ناعم خرير المياه
للذي أثقلت يديه الرمال السود
ناعم للمسة اليد المقعرة
المرمر الدائري للأعمدة
ناعمة المتاهات الدقيقة للمياه بين الليمون
ناعم الحب
وناعمة موسيقى الزجل
ففي الكتاب الذي صدر مؤخرا للتونسي حسونة المصباحي بعنوان «تجليات بورخيس» عن دار خطوط وظلال (2021) في عمان نيف وأربعون مادة بين موضوعة ومترجمة، عدا المقدمة التي يحدثنا فيها المصباحي عن هذا الكاتب الشاعر، فقد ولد في شهر آب/أغسطس 1899 في بيونس آيرس وفي الرابعة من عمره شرع يتعلم الإنكليزية. وفي الثامنة اكتشف ما في مكتبة أبيه من كنوز أدبية، انكب على قراءة المشوق منها: قصص وروايات لمارك توين، ولدكنز، وسرفانتيس، وترجمة لكتاب ألف ليلة وليلة. وهذه القراءات بعثت فيه الرغبة الشديدة في أن يصبح كاتبا كالذين قرأ لهم.
وهو في الخامسة عشرة أتيحت له زيارة أوروبا مع العائلة، التي ظلت تتنقل من عاصمة لأخرى، واستقرت في جنيف 1919 ثم غادرتها إلى إسبانيا التي قابل فيها الشاعر سورودا (1901- 1935) وفي إشبيلية انضم لحلقة من الكتاب والشعراء أصدروا مجلة «غريسيا» على أنه ترك هذه المجموعة بعد أن اكتشف ازدراءها للأدبين الفرنسي والإنكليزي لأسباب غير أدبية. وفي مدريد تعرف على رافائيل كانسينوس الذي أعجبه فيه كونه وهب حياته للأدب موليا ظهره للمال والشهرة. وفي عام 1930 أبدى بورخيس اهتماما لافتا بالشاعر الأرجنتيني كاراياجو الذي كان مغمورا خامل الذكر لسبب بسيط وهو أن شعره كله يدور حول الأحياء الفقيرة. وانضم بورخيس لفريق مجلة «سور» التي كانت له فيها مغامرات أدبية مثيرة. وفي عام 1937 شغل وظيفة في مكتبة في أحد أحياء العاصمة حتى سنة 1946.
في تلك الأثناء نشر مجموعته القصصية المثيرة وعنوانها «الحديقة ذات الدروب» وأنشأ بعد أن فقد وظيفته المذكورة مجلة باسم «حوليات بيونس آيرس». وفي عام 1955 سقط نظام بيرون ودخل بورخيس في مرحلة جدية، قادته أخيرا للانتساب لحزب المحافظين. وقد فسر هذه الخطوة تفسيرا غريبا، فقد كان انتسابه للحزب الراديكالي عن غير قناعة، إذ انتسب له لأن جده لأمه كان صديق مؤسس ذلك الحزب، وهو يجد نفسه منسجما مع أصدقائه في حزب المحافظين. في عام 1961 فاز بورخيس بجائزة الناشرين العالمية مناصفة مع الكاتب الأيرلندي صموئيل بيكيت مؤلف مسرحية في «انتظار غودو». وعلق على فوزه قائلا «الشهرة مثل العمى أدركتني فجأة» وفي خريف العام نفسه، أتيحت له الفرصة لزيارة الولايات المتحدة، ثم تكررت الزيارات 1962 و1963 ورافق والدته في زيارة لأوروبا بدعوة من اللجنة المكلفة بإحياء الذكرى الـ 400 لميلاد شكسبير. ومما تجدر الإشارة إليه أن بورخيس كان يحب والدته، أكثر من حبه لأي من أفراد العائلة، فعندما صدرت أعماله الكاملة في الأرجنتين كتب «أهدي هذه الأعمال لوالدتي، ومن حسن الحظ أنها تعرفها. فقد كان ذلك دليلا على أن ابنها كاتب».
وآخر زياراته لأوروبا كانت لروما 1984 وفي سنة 1986 استقر في جنيف، وفيها بدأ يتعلم اللغة العربية على يدي مدرس مصري من الإسكندرية، قيل إنه قرأ أعماله جميعا. وكانت غاية بورخيس من تعلم العربية هي قراءة ألف ليلة وليلة، بلغتها الأصلية لا في الترجمات، لكن الأجل لم يمهله، فقد توفي في السنة المذكورة، ودفن في مقبرة «بلانبالي» على مقربة من مرقد الفنان كالفان.
في الكتاب مقالات وأوراق عدة، بعضها مترجم مثلما ذكرنا، وبعضها من وضع المؤلف المصباحي. وقد وفق المصباحي في تتبع تأثر هذا الأرجنتيني بالتراث العربي، فبعد ترجمته لمقدمة بورخيس لـ»أوراق العشب» وهو ديوان للأمريكي والت وايتمان (1819- 1892) يشير لقصص كتبها بورخيس من وحي الثقافة والتراث العربيين. ومنها قصة «حكيم المقنع». وهذا ليس بغريب على بورخيس الذي كان على دراية بالكثير، ففي بحث ابن رشد ذكر عددا من أسماء الأعلام، في مقدمتهم ابن طفيل، وابن سيدة، والجاحظ، والإمام الغزالي، الذي نوه بكتابه «تهافت الفلاسفة» وحنين بن إسحق، وذكر الشاعر زهير بن أبي سلمى، والأديب ابن شرف القيرواني، وكلهم من أعلام التراث البارزين.
أما «الليالي العربية» ـ وهذا هو العنوان الذي وسمت به الترجمات الأوروبية لألف ليلة وليلة، فقد بُهر بورخيس بالكتاب، وقرأه عددا من المرات لا واحدة، وشبهه من حيث عظمة البناء بالكاتدرائية العظيمة التي تشيد في عدد غير محدود من سنوات، ويسهم في بنائها وزخرفتها بناؤون، ومهندسون كثر. فألف ليلة وليلة في رأيه وحكاياتها من ابتكار آلاف الرواة، ومن شدة تأثره بهذه الحكايات التي تتألق فيها روح الشرق كتب قصيدة سماها «استعارات ألف ليلة وليلة» وفي الأبيات الآتية يتضح هذا الأثر:
العفريت المحبوس في جرة من
النحاس، بخاتم سليمان،
وقَسَمُ ذلك الملك،
الذي يُسلم ملكته لليلة واحدة
لقضاء السيف
والقمر، والوحدة
تلك هي الأودسة المعصورة بعطش المغامرة
ومن وحي ألف ليلة وليلة كتب بورخيس قصصا منها قصة «حكاية ملكين ومتاهتين». وأجواء هذه القصة تجمع بين (بابل) والصحارى العربية، وبين أجواء الحضارة والبداوة. وفي مقالاته عن دون كيخوتة ـ رائعة سرفانتيس ـ إشارات للثقافة العربية الأندلسية، وهذا شيء متوقع، لأن بورخيس قرأ الكتاب في الوقت الذي قرأ فيه «ألف ليلة وليلة» و«جزيرة الكنز» و«أليس في بلاد العجائب» وفيها جميعا أجواء غرائبية وعجائبية متشابهة.
ناقد وأكاديمي من الأردن