في تفصيله لنسَبِه، راجعا في ذلك إلى القرن السابع عشر، يذكر خورخي لويس بورخيس أن عمّ والده، واسمه خوان كريسوستومو لافينور، «كان من أوائل شعراء الأرجنتين، وكتب قصيدة بمناسبة موت صديقه الجنرال مانويل بيلغرانو». كان الأسلاف في العائلة منقسمين في تطلّعاتهم بين العسكرية والأدب، بعض انتسب إلى هذه وبعض آخر اتخذ الوجهة الثانية. لكن ما يلفت في كلام بورخيس عن عمّ والده قوله، إنه كان من أوائل الشعراء الأرجنتينيين، قاصدا الأوليّة الزمنية طالما أنه ذكَر السنة (1820) التي كان قد كتب فيها قصيدته. وكان هذا مفاجئا لقارئ كتابه، إذ كيف يمكن للشعر أن يبدأ؟ كأن لم يكن موجودا من قبل، على نحو ما لم تكن موجودة السيارات أو الطائرات.
بورخيس، على أي حال، مولع بتلك اللحظة التي يبدأ منها تاريخ الأشياء، كما بأن ينسب إلى رجال من أقربائه حدوثها الأول. في وصفه الموجز لأحد هؤلاء، وهو جدّه لأمه وكان محاربا برتبة كولونيل، يذكرأنه قُتل برصاصتي ريمينغتون، «وكانت هذه أول مرة تستخدم فيها هذه الرصاصات في الأرجنتين». وكذا كانت ريادة زوج خالته الإيطالي الذي كان «أول من جلب العربات التي تجرّها الخيول إلى الأرجنتين». دائما في الأرجنتين، أو إلى الأرجنتين، إذ انه لا يشير إلى شيء بدأ في بلدان أوروبا التي قضى حياته متنقلا بين مدنها وثقافاتها. فهناك كان كل شيء موجودا في ما بعد البَدء، حاضرا راسخا على الدوام. لكن في الأرجنتين، التي يقول عنها إن رفاهية الحياة فيها كانت تغلب ما كانت عليه الحال في إسبانيا، يمكن للمرء أن يُشاهد التأسيس متصلا به، أو يمكنه تخيّله على أنه كذلك.
وبمقابل افتراض المشاركة في البدايات نجد عند بورخيس، من جانب آخر، ذلك الإحساس المتأسف بالنهايات. ما هو موجود لن يظلّ موجودا، إذ سريعا ما ستتغيّر هيئة العالم ويحلّ مشهد جديد محلّ ذاك الذي كان قائما من قبل: «قال لي أبي ذات مرة إنه يجب أن أنظر مليّا إلى الجنود والبزّات والثكنات والأعلام والكنائس والقسس ومحلات القصابين».
هي حياة كتب ومكتبات وكتّاب ورابطات كتاب أمكن لها أن تكون مسلّية: «لا شيء إلا الكتب في بيت كانسينوس، ولا مجال للتنقل من مكان إلى مكان إلا بعد إزاحتها من الطريق».
وهنا، يلفت ذلك المزج الذي لن يبقى على تواليه، إذ سينهي بورخيس جملته بما يصعب إدراجه حلقةً في التسلسل الذي بدأه بذكر أغراض العسكريين، منتقلا منهم إلى محلات القصّابين. ذلك عائد ربما إلى ولعه بخواتيم المقاطع التي تفاجئ. يذكّر ذلك بموسوعته عن الحيوان التي أثبتها ميشيل فوكو في مقدّمة كتابه عن تاريخ الجنون، وفيها ما لا يمكن ضبطه في سياق عقلي معروف. من ذلك مثلا أن يبدأ بتصنيف أنواع الحيوانات تبعا لقياس علمي ثم ينحرف عن ذلك ليصل إلى أن هناك صنفا من الحيوانات يصير يُطلع أصواتا بشعة إن ركلته برجلك على قفاه.
من حبه للغريب وغير المتوقع نقرأه، في هذا الكتاب، وهو يروي عن إعجابة بقصيدة للشاعر رافائيل كانسينوس آسينيس: «وقد أخذني أصدقاء كانوا من أدباء الأندلس لألتقي به. هنّأته بخجل على قصيدة عن البحر كان قد نشرها. نعم، قال أسينيس، وكم أتمنى أن أرى البحر قبل أن أموت».
أما عن ولعه بدراسة قواعد الأنكلوسكسونية، فيكتب بورخيس أنه حين أعلن له أحد الأكاديميين استغرابه من ذلك، أجابه بورخيس: «الأنكلوسكسونية كانت بالنسبة لي تجربة حميمية، مثلها مثل النظر إلى الغروب أو الوقوع في الحبّ».
ما كان يفترض أن يكون سيرة للحياة تحوّل إلى أن يكون سيرة للقراءة والكتابة والتنقل بين اللغات. في ما خصّ علاقته بالكتّاب يستأنف بورخيس ما لم يتوقف عنه أبدا، وهو ذلك المزيج من الإبداع والغرابة المنتقلة من الكاتب إلى كتابته، أو العكس.
هي حياة كتب ومكتبات وكتّاب ورابطات كتاب أمكن لها أن تكون مسلّية: «لا شيء إلا الكتب في بيت كانسينوس، ولا مجال للتنقل من مكان إلى مكان إلا بعد إزاحتها من الطريق». السبب في ذلك، بحسب بورخيس، هو أن كانسينوس لم يكن لديه نقود لشراء الرفوف. أما ماسيدونيو، وهو مولع آخر بالكتب، فكان كثير التنقل بين البيوت لعدم استطاعته دفع الإيجار، تاركا الكتب لدى كل انتقال مكوّمة حيث هي.
أما اللغات التي عمل بورخيس على إتقانها وتكثيرها فلم يتوقف عن تعلّمها منذ بدايات طفولته. كانت الإنكليزية الأقرب إليه، ثم اللاتينية ربما، فالإسبانية والفرنسية، التي كان قليل التعلّق بها، ثم الإسكندنافية والإيطالية والألمانية. يقول عن هذه الأخيرة أنه ما زال يعتقد أنها لغة جميلة، «ربما أجمل من الأدب الذي أنتجتْه»، وذلك بخلاف الفرنسية التي تتميز بأدبها، على الرغم «من أن اللغة نفسها قبيحة». الإسبانية بحسبه هي الأفضل بين اللغتين، «مع أن الكلمات فيها طويلة وثقيلة». وهو، في هذا الصدد، يذكر كيف أن غوته كان يرى لغته (الألمانية) أسوأ لغة في العالم. «كل كتّاب العالم يفكرون، كما يقول، بهذه الطريقة في ما يتعلّق باللغة التي عليهم مغالبتها». أما في ما يتعلّق بكتابته هو فالسيرة زاخرة بالتعليقات الساخرة، خصوصا في ما يتعلّق ببداياته الأدبية. «فاخر من الدرجة الثالثة» قال مستعيرا كلام ناقد لمجموعة من قصائده «بذلت كل جهدي فيها لأكون والت ويتمان» أو حين يقول: «قال لي صديق عاقل قرأت له (من كتابتي) بعض السخافات». أما عن النقد الذي يوجّه له خصومه فيجده قليلا بحقّه: «أشعر بأن بإمكاني القيام بالمهمة أفضل منهم بكثير».
٭ كتاب خورخي لويس بورخيس «هوامش سيرة» نقله إلى العربية سنان أنطون في 111 صفحة عن «منشورات الجمل»، إصدار 2020
٭ روائي لبناني