كيف سيكون شكل العالم في المئة عام المقبلة؟ وهل نمتلك في المنطقة العربية ما يمكن أن يجعلنا مهتمين بالإجابة عن هذا السؤال؟ أم أن كثيراً من الأنظمة، منشغلة أساساً في الواقع، وفي تثبيت مواقعها، وتتوجه في تفكيرها بأكمله من أجل خدمة استمرارها.
ما يتضح حالياً أن الولايات المتحدة ستتغير، هي لن تضمحل في العقود المقبلة، نظراً لما تمتلكه من ثروات كبيرة، ولكنها لن تبقى الدولة الأكثر تأثيراً في ما يحدث في العالم، والظاهر أن التغيرات المناخية ستمنح ميزة نسبية للاستثمار في دول تقف على مشكلات سكانية مثل، روسيا وكندا، والأخيرة تحديداً، ستحدد مجتمعاً مختلطاً بصورة كبيرة مع تدفق الهجرة، وسيهدد نقاء فكرة التفوق الغربي.
الحرب بين التكنولوجيا والصناعة ستتواصل، التكنولوجيا ستهيمن بصورة كبيرة، ولكن يوجد زخم سكاني سيحدد فاعليتها في الصناعة، خاصة أن الموارد تتركز أيضاً في الدول ذات الكثافة السكانية العالمية، فالموارد أتت أولاً، وبعدها توسعت حركة الاستيطان والتكاثر الإنساني، والطاقة ستتراجع نوعاً ما، أو ستحدث حالة من دمقرطة الطاقة لنضوب الموارد الأحفورية مثل النفط والغاز، أو تراجع حصتها في توفير احتياجات العالم من الطاقة، والمياه ستصعد لتصبح موضوعاً مهماً للهيمنة وللطاقة أيضاً، فالسدود ستكون من الحلول المقبلة لأزمات الطاقة في العالم، وأخيراً الزراعة والأمن الغذائي، وتراجع التجارة في المنتجات الزراعية أمام تحسن نوعية الحياة في العديد من الدول، والتحديات السكانية التي ستدفعها للتركيز على محاصيل غذائية محلية.
الخيال العربي يحتاج للحرية الذاتية بالتخلص من مقولاته التاريخية ومخاوفه المقيمة، والموضوعية المتمثلة في صورة الدولة، والوعي الحقيقي بدورها داخل التاريخ
كل هذه الاعتبارات تضع معظم الدول العربية في موقع غير مشجع في هندسة المستقبل، والرهان المتبقي على التداول في مجال التجارة واستغلال الموقع الوسطي في العالم، ربما يظهر متناقضاً مع نزعة واقعية متصاعدة أطلقتها أزمة وباء كورونا، لتجعل العالم يفكر في التجارة الدولية المفتوحة بطريقة مغايرة، ثم إن تطور البنى السياسية وحركة الوعي بالذات والاستقلال في العديد من الدول الافريقية، ينذر بأن العالم ربما يشهد تغيراً جذرياً عندما نصل إلى مرحلة تقول افريقيا إنها ليست منجماً عليها تصدير المعادن والعمالة الرخيصة والمستكينة، وإن من يرغب في الاستفادة من ثرواتها عليه أن يمضي إلى هناك وأن يتعامل مع التنمية من مسافة قريبة، وبصورة تحقق المصلحة المشتركة، وهذه الرسائل ربما يستشعرها الفرنسيون في فضائهم الافريقي. عضلة القلب العربية التي يجب أن تقوم على الزراعة والصناعة مرهقة بصورة غير عادية، والشرايين الجديدة التي تمتد من أجل البنية التحتية، سواء في صورة موانئ أو طرقات سريعة، جميعها لا يمكن أن تشكل طريقاً للمستقبل في ظل عدم القدرة على تعزيز إنتاجية المنطقة، فهل تجري هندسة المنطقة لتصبح حديقة خلفية للهند والصين، وهل يمثل ذلك الطموحات التي تحملها المنطقة في المئة عام المقبلة؟ لا يمكن الانتقال إلى المستقبل بكل عبء هذه الحمولة من التاريخ، ولا يمكن أن ننتقل سوى بتحمل الديمقراطية وثمنها الباهظ، لأنها الوحيدة التي تعمل على تأسيس الثقة في المجتمعات العربية، التي ما زالت تعيش فزعاً مكتوماً في اللاوعي، تفزع لتراث الانتقام القائم، من مذابح الأمويين بعد دخول العباسيين إلى مجزرة قصر الرحاب في بغداد 1958، مروراً بحروب أهلية وقبلية كثيرة ومجازر سياسية واسعة النطاق، ووسط تراث من الانقلابات العسكرية والاغتيالات لا يمكن التفكير في المستقبل. والنقلة إلى الديمقراطية على الرغم من تأخرها، وجميع الإجراءات الشكلية الاسترضائية، يمكن تحييد التخوف منها من خلال المشاركة السياسية الفعلية، بمعنى انتهاء علاقة الوصاية بين الأنظمة والرعايا، لتتحول إلى أرضية من التكامل يمكن من خلالها تخليص الخطاب السياسي العربي من حمولته الزائدة من الشعارات والافتراضات، واختبار أساطيره المؤسسة بصورة حقيقية.
يعلن رجب طيب أردوغان سعيه إلى القرن التركي قبيل الانتخابات المقبلة، وفي لحظة حرجة تتزاحم فيها المشكلات على الدولة التركية، ولكن التفكير في منطق الخطط التحولية، التي تمتد إلى عقد أو عقدين من الزمن لم يعد مجدياً، خاصة أن معظمها مرتبط بتحولات مهما كانت مهمة إلا أنها تبقى شكلية، ومنتمية لما كان ناجحاً قبل عقود من الزمن، وعلى افتراض استمرار البنى السياسية والاجتماعية في العالم على وضعها الراهن، بطريقة أخرى، فإن المخططين يسعون إلى نماذج تنقل المنطقة العربية إلى الأنماط السائدة في الغرب على أساس موضعته نموذجاً، وتستعين بخبراء الغرب وطاقاته البشرية التي تحمل السير الذاتية العريضة، مع أن المطلوب هو أمر في حدود المخيلة، كما كانت عليه الأوضاع والعالم يدخل القرن التاسع عشر مع الثورة الصناعية.
الخيال العربي فقير لأنه يحتاج إلى كثير من الحرية، الذاتية بالتخلص من مقولاته التاريخية ومخاوفه المقيمة، والموضوعية المتمثلة في صورة الدولة، والوعي الحقيقي بدورها داخل التاريخ وضرورة انصياعها لشروطه، وعدم قدرتها على مجاوزته أو التعالي عنه، فهذه أمور تصلح للاستهلاك المحلي مثل الرسائل الخالدة، أما الواقعي فهو بناء دول قادرة على التفاعل مع الواقع في إمكانيات ذاتية، وفي الحالة العربية، من الضروري تقاسم الأدوار القائمة على فرز المصالح والإمكانيات والموارد لبناء مستقبل أكثر قدرة على الاستجابة للمتطلبات والتحديات المتزايدة في المنطقة والعالم.
كاتب أردني