أكد الروائي الجزائري بومدين بلكبير أن الرواية الجزائرية بخير رغم كل العراقيل التي يزخر بها المحيط الثقافي، من ضُعف مستوى الحراك والنقاش الثقافي وتقاعس النقد، وطالب بفتح المجال وتحرير المبادرة الثقافية من سيطرة المال العام، باعتبار أن الثقافة أساسا فعل مستقل وحر، ولفت إلى أنه يحاول قدر المستطاع ككاتب أن يكتب بعيدا عن إكراهات الرقابة الذاتية، التي هي نتاج منظومة قيم وأعراف سوسيو- ثقافية وسياسية متعددة تمثل أكبر حجر عثرة أمام الإبداع الحر، ودافع عن النهايات المفتوحة في الأعمال الإبداعية، من منطلق أن في الحياة لا يوجد شيء دقيق تماما أو ثابت عدا التغيير والتحوّل.
في هذا الحوار مع «القدس العربي»، يسرد بومدين بلكبير كيف يعبّر عن إنسانيته من خلال فعل الكتابة، لأن ما يهمه بالأساس هو أن ينتصر للإنسان أوّلا وقبل كل شيء، حسبه «أن تكتب يعني أن تبحث عن إنسانيتك بين ركام ضياع الإنسان العربي».
□ تمثل – منذ سنوات – جزءا من المشهد السردي الجزائري المعاصر، كيف تقيّم واقع راهنه وما رؤيتك لمستقبله؟
■ صعب اختصار المشهد السردي الجزائري في مجرد انطباع، ومع ذلك يمكن الحديث عن مدى التنوع والتعدد في الإشكالات والتساؤلات المطروحة، وكذلك في حداثة الموضوعات المطروحة، إذ ما يميّز هذه الفترة في الكثير من النصوص الروائية هو طرحها للإشكالات المعاصرة، من خلال الاتكاء على مساءلة التاريخ واستعادة مراحل تاريخية بعينها، فضلا عن تناول مجموعة من الإشكالات الاجتماعية التي يعيشها الإنسان الجزائري المعاصر في تفاصيل راهنه. كما عرفت هذه المرحلة طرح إشكالات كونية/عالمية. أما بخصوص الحديث عن تقييم الواقع والمستقبل، أعتقد أن الرواية الجزائرية من حيث الشكل والمضمون مواكبة للرواية العربية والعالمية إلى حد بعيد، إذ يمكن القول في هذا الصدد إن الرواية الجزائرية بخير، رغم كل الإكراهات والعراقيل التي يزخر بها المحيط الثقافي. فهناك أسماء جزائرية مهمة تتصدر المشهد العربي والعالمي. على الرغم من تلك الصورة المشرّفة يلحظ المتابع للمشهد الثقافي الجزائري بعض العلل والأمراض التي تنخر جسد الرواية؛ بسبب التهافت على النشر بشكل لافت، وضعف مستوى الحراك والنقاش الثقافي، وتقاعس النقد، وهشاشة الإعلام الثقافي.. المشهد الأدبي الجزائري ثري ومتنوع، ومن غير المنطقي أن ندعي عكس ذلك.
□ في روايتك الأخيرة «زنقة الطليان» غصت عميقا في حيوات المهمّشين والمستضعفين، كيف استطعت سرد كل تلك التفاصيل المتعلقة بالصراع، الألم، الغموض والأحلام المؤجلة؟
■ طبعا ككاتب حاولت إسماع صوت المقهورين والمهمّشين، فضلا عن أن الكاتب أكثر حساسية من غيره في تناول موضوعات، وبإمكانه من خلال نصوصه النفاذ إلى عمق الهم الإنساني، والغوص في نفسيات الناس بدل التخبّط على السطح، فأنا ككاتب أحاول أن أبحث عن إنسانيتي من خلال فعل الكتابة، ويهمني بالأساس أن أنتصر للإنسان أولا وقبل كل شيء.
□ في رصدك لكواليس عنابة في «زنقة الطليان» دافعت عن هويتها التاريخية، لماذا تجاوزت بالسرد والتخييل جغرافيا المكان لهذه المدينة؟
□ تناولت رواية «زنقة الطليان» في الظاهر الهدم الذي ينتظره حي زنقة الطليان والطرد الذي يترقبه ساكنة هذا الحي العتيق، في حين الرواية بمثابة حديث عميق عن الاعتداء على تراث إنساني وتاريخ ثقافي ومعماري ضارب في الأعماق. علاوة على أن الرواية لا تمثل واقعا لمدينة بعينها، بل تتجاوز ذلك، حيث تعج بحقائق الإنسان المغلوب على أمره في زمن الجشع والفساد، إنسان فقد الرجاء في خلاصه الجماعي ناهيك من الفردي.
□ صرحت سابقا بأن «الرقابة الذاتية تقتل الإبداع وتسمّم الحياة الثقافية»، هل هذا يعني أنك تكتب بحرية مطلقة؟
■ بصراحة لا يمكن الحديث عن «حرية مطلقة» في المنطقة العربية، لماذا؟ لأنه مصطلح ملتبس وفضفاض، إذ لا يوجد شيء عندنا اسمه حرية. لأن كل شيء ضد الكتابة، المجتمع، الأسرة، السياسي… والكتابة بحرية أضحت اليوم بمثابة تحد كبير. بل إن الاستمرار في الكتابة في حد ذاته أضحى عملا بطوليا أمام كل تلك الإكراهات.طبعا، أحاول قدر المستطاع ككاتب أن أكتب بعيدا عن إكراهات الرقابة الذاتية، التي هي نتاج منظومة قيم وأعراف سوسيو-ثقافية وسياسية متعددة … وتمثل أكبر حجر عثرة أمام الإبداع الحر.
□ إن كنت تكتب للبقاء والاستمرار، ما الذي تقاومه بالكتابة؟ وما الذي تحاول من خلالها هزمَه؟
■ الرواية تغذي الخيالات المثالية والأحلام المؤجلة بعالم أفضل، تخترق روح القارئ، وتزلزل كيانه وتدفعه نحو مقاومة واقعه البائس، وتحركه لمواجهة ذاته في المقام الأول، ثم مقاومة الألم والخراب الذي ينخر عالمه في مرحلة ثانية.
اختياري للرواية جاء كذلك من باب التحايل على الرقيب، وتمرير بعض القضايا والأفكار التي تختلف مع وجهة النظر الرسمية فالكتابة هي أن تتخفف من ثقل هذا العالم الجاثم على إنسانيتنا، أن تستشعر وجودك في عالم يقدس كل فنون الموت، أن تبقى حيا وسط تفاصيل الخراب وصور أجداث الموتى التي تمطرنا بها فضائيات تتنافس كل واحدة منها على تجريم طرف على حساب طرف آخر، أن تكتب يعني أن تبحث عن إنسانيتك بين ركام ضياع الإنسان العربي، أن تكتب يعني أن تقوم بأفعال متنوعة قد تبدو متناقضة في الوقت ذاته، أن تكتب يعني: تحاول أن تتخفف، تهرب من بؤس يكاد يطبق عليك من كل الجهات، تكون شاهدا على عصرك، وعندما تصل إلى نقطة تدرك فيها أن لا جدوى من الكتابة فاعرف أن هذا العالم الأعمى هزمك.
□ تعتبَر «خرافة الرجل القوي» من الروايات الاجتماعية، كيف خُضت تجربة الكتابة في حقل مليء بألغام التحوّلات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تربصت بها أو بالأحرى تربصت بك في هذا العمل؟
□ تورطت بكتابة رواية «خرافة الرجل القوي»، لحظة بدأ ذلك الصراع بين المخيلة والواقع ينهشني، ويعصف بما تبقى لي من صبر! أيهما سينتصر في النهاية، المخيلة أم الواقع؟ أردت من خلال كتابة رواية «خرافة الرجل القوي» أن أحفر في الذاكرة كي ألامس جوهر الحقيقة فيما يتجلى لنا في الواقع من قبح مستشر بشكل صادم، أو جمال على انحساره وندرته، من دون أن أضع أدنى حدود أمام الخيال، عدا إكراهات الكتابة الفنية المطلوبة في نصوص إبداعية كهذه؛ الأمر لم يكن هينا ولا سهلا كما قد يبدو من ظاهره، بقدر ما استنزفني وأنهكني إلى حد أنني قررت أكثر من مرة التوقف عن المواصلة، فلم أكن أنسج حروف الرواية بالنقر على لوحة مفاتيح الحاسوب، أو بالخط على الأوراق بأصابع يدي فقط، بقدر ما كنت أنسجها من روحي ودمي وأحاسيسي وكل خلايا جسدي. وكلما كنت أتقدم في خط الكتابة، كانت مساحة الخيال تتسع، ومساحة الواقع المباشر تتضاءل. كنت أكتب وأحلم في الوقت ذاته! حتى إنني لم أعد أومن بأي حقيقة في الواقع عدا حقيقة الوقائع والأحداث التي رسمتها المخيلة في روايتي.
■ «زوج بغال» تعكس رؤية جديدة في تقديم صورة الآخر، على أي أساس استندت لتجاوز الحساسيات في كتابة هذه الرواية؟
■ على أساس تجنّب الخوض في تفاصيل الخلفيات السياسية لقرار إغلاق الحدود وما سبقه من أحداث مؤلمة بين البلدين، حتى لا أغرق في إشكالية من أسبق الدجاجة أم البيضة؟ ومن الذي أخطأ أولا؟ خياراتي تلك جنّبتني الدخول إلى متاهة لا مخرج منها. طبعا كلاهما (أي المغرب والجزائر) خاسر من استمرار الأزمة، لذلك فضّلت الحديث عن التفاصيل والمآسي والجراح، فضّلت الانتصار للجانب الإنساني على السياسي في روايتي. كما حرصت على الحياد والموضوعية في تناول هذا الموضوع الحساس، بمعنى: لم أُرد أن أكون بوقا لأي طرف. تناولت الموضوع بعيدا عن العصبية وعن التحيّز، فأغلب النقاشات والقراءات الإعلامية التي تناولت الأزمة الجزائرية المغربية تقع للأسف عن قصد أو غير قصد في فخ التحيّز والانتصار إلى وجهة النظر الرسمية للحكومة التي ينتمي إليها صاحبها. ولما تقرأ المقالات في الصحف المغربية أو الجزائرية (الرسمية أو المستقلة)، ليس بإمكانك أن تفرّقها عن بيانات وزارتي خارجية البلدين». لا أخفيك سرا إن قلت لك: إن ما طرحته في رواية «زوج بغال»، يدخل في إطار محاولة إذابة جبل الجليد في العلاقات بين البلدين (المغرب والجزائر)، وكمساهمة في ردم هوة الصراعات والنزاعات التي لا مبرر لها. أردت أن أقول من خلال هذا العمل أن ما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرقنا؛ تاريخ مشترك، عادات وتقاليد واحدة، اللغة نفسها، الثقافة مشتركة.
□ لماذا تركّز في نصوصك على ثيمات الاغتراب الاجتماعي، الهجرة والمنفى؟ ولماذا تفضل النهايات المفتوحة في أعمالك؟
■ طبعا، أنا أشتغل على مشروع سردي، وثيمة الاغتراب الاجتماعي، والهجرة والمنفى ضمن محاوره الكبرى. أما بخصوص النهايات المفتوحة، ففي الحياة لا يوجد شيء دقيق تماما أو ثابت عدا التغيير والتحوّل، علاوة على أنني أحاول أن أشرك القارئ في التفكير وتخيّل نهاية الأحداث ومآلات الأشخاص، وكل قارئ بإمكانه التأويل والقراءة وفق رؤيته ومنظوره الخاص، وأعتقد أن هذا التقاسم أو إدماج وتوريط القارئ، يمثل بالنسبة لي ككاتب إضافة مهمة أو بمثابة ثراء لنصوصي السردية.
□ نحن في عصر يشاع فيه مصطلح «الاقتصاد الثقافي» برأيك، هل في المشهد الثقافي الجزائري فعلا ما له علاقة بهذا؟ وأين نحن من «الصناعة الثقافية» و«الأدب الجماهيري»؟
■ مازال ينتظرنا الكثير لنقوم به في هذا المجال، ومن المهم فتح المجال وتحرير المبادرة الثقافية من سيطرة المال العام. الثقافة في الأساس هي فعل مستقل وحر. وفي هذا الصدد قدمت مؤخرا مبادرة متكاملة إلى حد بعيد، نشرت قبل أسابيع في كتاب بعنوان: «الاقتصاد الثقافي والإبداعي في الجزائر- رؤى واتجاهات مستقبلية».