■ لا بد بدايةً من توضيح بعض ما في العنوان: بونويل هو لوي بونويل، المخرج الإسباني السيريالي وأحد أبرز السينمائيين في القرن الماضي، و«العصر الذهبي» هو عنوان فيلمه الثاني في مسيرته. ففيلمنا هذا، الأنيميشن (الرسوم المتحركة)، يصور فترة قصيرة من حياة بونويل ما بعد فيلمه «العصر الذهبي» الذي كان فضيحة لجرأته بالمشاهد الجنسية ولتوجهه السياسي، إذ اتهم بونويل بالشيوعية، وأساساً لعموم الشغل «البونويلي»، في هذا الفيلم كذلك، وما فيه من سيريالية صادمة لمدعي الأخلاق والبورجوازية من الفرنسيين، وما فيه، لذلك، من نقد لاذع لهؤلاء.
يبدأ فيلم الأنيميشن المعروض حالياً في الصالات الفرنسية، بردود الفعل حول «العصر الذهبي»، وقد رفضه رواد السينما وهم من البورجوازية الفرنسية. يعيش بونويل في باريس منفياً، مرحلة يائسة وبائسة من كل النواحي، إلى أن يربح صديقه ورقة يانصيب كان قد وعده مسبقاً بأنه إن ربحها فسينتج الفيلم المقبل له.
فيلمنا هذا، للإسباني سلفادور سيمو، إذن يحكي عن مرحلة بونويل ما بعد فيلم الفضيحة، السيريالي، يحكي عن مرحلة تصوير فيلمه التالي وهو «أرض بلا خبز»، وهو هذه المرة وثائقي وقصير (نصف ساعة)، وواقعي جداً، إذ كانت ملاحظة صديقه المنتج أنه من الجيد أن يخرج السيريالي الأكبر فيلماً واقعياً، وكان ذلك، وكان للمسات بونويل السيريالية مكانٌ واضح في فيلمه الوثائقي الواقعي جداً.
أما الحكاية فهي كالتالي، يربح صديقه ورقة يانصيب (لوتو) فيقرر أن يصرفها على إنتاج فيلم صديقه، كما سبق ووعده، فيركز الفيلم، الأنيميشن، على صناعة وتصوير «أرض بلا خبز» في قرية نائية، قريبة من الحدود الإسبانية البرتغالية، في واد، الطريق إليها شبه منقطع، معزولة، والأهم أن أهلها يعيشون في فقر مدقع، ويحيط بهم المرض والموت من كل ناحية. هذه الحالة الواقعية تماماً كما نشاهدها في الفيلم، يظهر لنا بونويل كم هي كذلك سيريالية، وكم هو الواقع قادر على أن يكون سيريالياً في وحشيته وقساوته، ففيلمَي بونويل السابقين «العصر الذهبي» والأشهر «كلب أندلسي» فيهما من الوحشية ما لا يمكن لذهنية الإنسان أن تصلها، كنملٍ يغزو يد أحدهم أو سكين تجرح عين إحداهن. في فيلمه الواقعي لبونويل نشاهد واقعاً أشد وحشية من كل ذلك، وقد صُور عام 1932. قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب العالمية الأولى، وانحسار السيريالية بعدها، لما شهده العالم من فظاعات فاقت المخيال السيريالي.
فيلم الأنيميشن، اليوم، نقل يوميات بونويل من اللحظات الأولى حتى الأخــــيرة في تصوير فيلمه، بحضور رجلين، مصور ومساعد، والمنتج رابعهما. الفيلم الذي شارك في عدة مهرجانات، واعتمد، إضافة إلى الرسومات المتحركة، على مشاهد من فيلم «أرض بلا خبز» لم تكن قليلة، إذ أظهر طريقة تصوير مشاهد عدة أنهاها بالمشهد نفسه من فيلم بونويل. مع موسيقى تصويرية لافتة.
لهذه القصة، أي حالة البؤس التي عاشها بونويل، ثم فوز صديقه بورقة يانصيب، فأنتج فيلمه، ثم موضوع فيلمه وطريقة تصويره، أسباب عدة في أن تكون فليماً جيداً (هو الأنيميشن موضوع هذه الأسطر) فقصة كهذه جديرة بالتحول إلى أنيميشن أو وثائقي، ومن غير السهل تعميم ذلك على أي فيلم، فلا يعني كثيراً أن يكون الفيلم تحفةً، أي أن ما يهم هنا لا فيلم بونويل «أرض بلا خبز»، فليس فيه ما هو لافت مقارنة بأفلام أخرى له، لكن السياق الذي أتى به، ظروف وأسباب تصويره، كان العامل الأساسي ليصير كل ذلك حكاية تُصور اليوم في فيلم أنيميشن. فليس لكل فيلم قصة يمكن تحويلها لفيلم آخر كهذه.
يمكن لهذا الفيلم «بونويل بعد العصر الذهبي» (Buñuel après l’âge d’or)، وهو بطولة بونويل نفسه، أو رسمه، أن يُظهر شيئاً من بدايات بونويل السينمائية وأسلوبه في صناعة أفلامه التي امتدت إلى سبعينيات القرن. ففيلمه هذا هو ثالث أفلامه، وثلاثتها (متوفرة على يوتيوب) تقدم البدايات السينمائية لأحد أهم صانعي السينما في القرن العشرين. وأحد أهم رواد السيريالية التي امتدت معه حتى فيلمه الأخير عام 1977 «الموضوع الغامض للرغبة». ومن المفيد مشاهدة «بونويل بعد العصر الذهبي» إضافة لكل ما سبق، لقيمته التوثيقية في الكيفية التي يصور فيها بونويل أفلامه، في الأفكار الغرائبية التي يأتي بها، حتى في فيلم وثائقي، وقد انحاز لاحقاً بونويل إلى الأفلام الروائية سارحاً في فضاءات السيريالية كما لم يفعل غيره، وأخرج بعضاً من أهم أفلام القرن الماضي، نذكر هنا ما قد يكون أهمها: «جميلة النهار» عام 1967، «شبح الحرية» عام 1974، «السحر الخفي للبورجوازية» عام 1972، «تريستانا» عام 1970، «فيريديانا» عام 1961، وغيرها.
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا