لندن ـ «القدس العربي»: ثمة شخصيات غدت أسطورة وكانت ملء الأسماع والأبصار، ومن بين هذه الشخصيات واسعة السطوة التي غدت أيقونة ورمزا فريدي ميركوري، المغني الرئيسي في فريق الروك الإنكليزي الشهير «كوين».
عندما بدأ عرض فيلم «بوهيميان رابسودي» (2018) للمخرج الأمريكي برايان سينغر، الذي يتناول فيه السيرة الذاتية لفريدي ميركوري، في دور العرض البريطانية، دار في خلدنا الكثير من التساؤلات عن كيفية تناول المخرج لحياة ميركوري. ترى كيف سيصور الفيلم تلك الشخصية الأيقونية؟ ما هي الإضاءات الجديدة التي سيقدمها عنه؟ ترى هل سيكون الفيلم كاشفا، أم هل سيحوم حول السطح ولا يراوحه؟
يبدأ الفيلم سرديته بمنتهى مسيرة ميركوري، عند اعتلائه خشبة المسرح في واحدة من أشهر الحفلات في التاريخ الموسيقي العالمي، في حفل «لايف إيد» (Live Aid)، الذي أقيم عام 1985 لصالح متضرري المجاعة في إثيوبيا. ثم ينتقل بنا إلى مستهل سيرة ميركوري وفريق كوين.
«بوهيميان رابسودي»، التي تعنون الفيلم، هي واحدة من أشهر أغنيات فريق كوين، الذي كان علامة فارقة في موسيقى الروك حتى انفراط عقده في أوائل التسعينيات. يسرد الفيلم ذلك الحلم الذي كان يراود ذلك الشاب المتمرد الأسمر فاروق بولسارا، الذي اختار لنفسه لاحقا هوية جديدة واسما جديدا هو فريدي ميركوري. يسرد الفيلم كيف التقى فاروق، الذي نشأ في أسرة زرادشتية تعود أصولها لزنجبار، والذي كان يعمل في حمل الحقائب في مطار هيثرو، في بداية السبعينيات بزميليه برايان ماي وروجر تيلور، وكيف أسسوا الفريق الذي غدا علما من أعلام موسيقى الروك. لا يذهب بنا الفيلم إلى جوهر شخصية ميركوري ولا يتمهل عند أي لحظة فارقة في حياته أو حياة الفريق، بل يستعرض الأحداث في عجالة. يمر الفيلم مرورا عابرا بطموح ميركوري وشعوره بأنه مكبل بأسرته وتمرده على جذوره، حبه لماري أوستن، التي غدت لاحقا صديقته المقربة، اكتشافه لميوله الجنسية المثلية، علاقته بزميليه في الفريق، سعيه لخلق ذاته وخلق إبداعه الموسيقي والغنائي. يتنقل بنا الفيلم من بدايات الفريق في الحانات الصغيرة، إلى قرار فريدي أن يسجل الفريق أول ألبوماته، إلى اكتشاف الاستوديوهات الكبرى للفريق والشهرة والثراء، وعلاقات فريدي المتعددة إلى إصابته بالإيدز. شريط متلاحق من الأحداث التي تمر سريعا، في عجالة شديدة، ولكن ما يجذب انتباهنا حقا هو أغنيات الفريق، التي شكلت وجدان الكثير منا، والتي تعد جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الموسيقية للكثيرين.
يلوك الفيلم الأحداث فيكاد يغص بها، ولا تقدم سردية الفيلم أي عمق لشخصية فريدي، أو للتكوين الموسيقي للفريق. تتلاحق الأحداث الشخصية وتتلاحق الجولات الموسيقية.
يلوك الفيلم الأحداث فيكاد يغص بها، ولا تقدم سردية الفيلم أي عمق لشخصية فريدي، أو للتكوين الموسيقي للفريق. تتلاحق الأحداث الشخصية وتتلاحق الجولات الموسيقية، ولا يكشف الفيلم تأثير أي حدث على التطور الشخصي أو النفسي أو الموسيقي لفريدي أو للفريق. يمكننا القول إن عامل الجذب الرئيسي في الفيلم، والعامل الذي يجعلنا نواصل مشاهدته هو تقديمه لأشهر أغاني فريدي ميركوري وكوين، ما يجذبنا حقا هو تلك الموسيقى التي ألفناها وأحببناها وعشقناها وغدت جزءا من وجداننا الموسيقي. يبدو الفيلم قانعا بالمقاربة الشكلية فقط لفريدي ميركوري وزميليه في الفريق، فأول ما نلحظه في رامي مالك، الذي لعب دور فريدي، هو تلك الأسنان المستعارة، التي تم تركيبها له لتشابه الشكل المميز لفك فريدي وأسنانه. مقاربة شكلية تكاد تكون محاكاة مظهرية فقط، بدون تقديم أي جوهر للشخصية، وبدون التمهل أمام هذه الموهبة الموسيقية والغنائية الفذة، ولكن على الرغم من عدم مراوحة الفيلم للسطح وعدم ملامسته للجوهر، يبقى أداء مالك أحد أفضل عناصر الفيلم. يتقمص رامي حركات وسكنات فريدي ميركوري، واختلاجات وجهه ويقنعنا بحضوره الطاغي على خشبة المسرح. وفي ذلك المشهد المفصلي الذي يختتم الفيلم حين يعتلي فريدي ميركوري خشبة المسرح في حفل «لايف إيد» الأيقوني لصالح ضحايا الجفاف والمجاعة في إثيوبيا، يتلبس رامي بصورة تامة طاقة ميركوري المتفجرة على خشبة المسرح، ويذكرنا بحضوره الطاغي وامتلاكه لناصية الأداء، ولكن الفيلم يخفق تماما في تقديم سيرة ذاتية ذات عمق أو جوهر. نشاهد الفيلم كما لو كنا نشاهد فريقا جديدا يقدم عددا من الأغنيات ذائعة الصيت لفريق شهير. نشاهد في عجالة تأثر ميركوري بالموسيقى الكلاسيكية، الذي ظهر في أغنية «بوهيميان رابسودي»، ونشاهد رغبة برايان ماي في إنجاز أغنية يشارك الجمهور في إيقاعها المميز، ولكن الفيلم لا يتوقف مليا ليصور العمل الإبداعي للفريق أو ليتعمق في الحياة النفسية أو الفكرية أو العاطفية لميركوري، بل إنه لا يتوقف مليا أمام معرفة ميركوري أنه مصاب بالإيدز وأن حياته تقارب نهايتها.
قد تكون الحسنة الرئيسية لفيلم «بوهيميان رابسودي» هي تقديم موسيقى وأغاني كوين وفريدي ميركوري لجيل جديد من المستمعين والمشاهدين. هو فيلم يمد محبي كوين بالحنين لأغانيهم ويعيدهم إلى أيامهم الخوالي، وهو فيلم أيضا يسعد به جيل جديد يكتشف فيه موهبة كوين وفريدي ميركوري الموسيقية الفذة، ولكنه فيلم لا يروي تعطشنا لكشف جوهر تلك الموهبة أو إلى استجلاء الأعماق النفسية لفريدي ميركوري.