بيروت بين الثورة العابرة للانقسامات وصعوبة تجاوز ذاكرة التوترات الطائفية

وائل عصام
حجم الخط
0

بيروت ـ «القدس العربي»: مثلت التظاهرات الشعبية في لبنان التي انطلقت في «ثورة 17 تشرين» فرصة لالتئام خطاب وطني لبناني جامع، يتجاوز الانقسامات المذهبية الحادة التي طبعت البلاد وشكلت نظامها السياسي.
وبالفعل، بدأ اللبنانيون خلال التظاهرات العارمة التي اجتاحت البلاد وأطاحت بحكومتي سعد الحريري ثم لاحقاً حسان دياب، متفقين أكثر من أي وقت مضى، على نبذ الاعتبارات الطائفية ومحاربة الفساد الحكومي المستشري الذي أدى لتردي الأوضاع المعيشية بشدة وشيوع الفقر، وهو الأمر الذي وحدهم رغم التحزبات السياسية، لكن مع مرور الوقت، تبين أن الإجماع اللبناني على تلك المطالب المعيشية لم يلغ الدوافع المتباينة للفئات اللبنانية، فمثلا تحولت شعارات كـ»بيروت منزوعة السلاح» وشمول أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله بـ «كلن يعني كلن» و«إسقاط حكم المصرف» لنقاط خلافية، كذلك، أفضت إلى التمايز بين كتل وانتماءات المتظاهرين، ما قاد إلى انسحاب معظم متظاهري الضاحية الجنوبية والأحياء الشيعية في بيروت من ساحة الشهداء، بعد مشاركتهم بكثافة في الأسابيع الأولى للتظاهرات.
لكن هذا التباين لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد إلى عودة التوترات المناطقية بين الأحياء ببيروت خلال التظاهرات، وعادة ما يقوم الجيش اللبناني بقطع الطرق الفاصلة بين هذه الاحياء منعا لأي اشتباك أو توتر، الأمر الذي تكرر خلال تظاهرات ساحة الشهداء الأخيرة التي اعقبت انفجار بيروت، كما شاهدت «القدس العربي» خلال تجولها في شوارع العاصمة.

القديم المتجدد

ولعل أشهر الأحياء التي عادة ما تشهد مناوشات منذ انطلاق التظاهرات، هي عين الرمانة والشياح، بين أنصار «حزب الله» و»أمل» (شيعة) من جهة، وبين أنصار «القوات اللبنانية» بزعامة سمير جعجع (مسيحيين).
وكذلك محور قصقص بين طريق الجديدة السنية وبربور والغبيري الشيعية، وحتى بين الثلاثي المسيحي «ميشال عون سمير جعجع أمين الجميل» في سن الفيل.
كل ذلك يذكر بخطوط التماس الشهيرة خلال الحرب الاهلية و»كانتونات» الطوائف، لعل أشهرها عين الرمانة التي شهدت انطلاقة الحرب الأهلية، الأمر الذي دفع نادين لبكي مخرجة فيلم «وهلأ لوين» الذي يتحدث عن النزاع الطائفي، للمشاركة بمظاهرة العام الماضي، بعد مناوشات عين الرمانة والشياح، قائلة في تصريحات للإعلام إنها «لم تكن تتخيل أن المشاهد التي صورتها في فيلمها قد تتحقق على أرض الواقع يوما ما».

لبنان «المكنتن»

في شارع بدارو، الذي بات ينافس الحمرا كمركز لاجتماع المثقفين والصحافيين في بيروت، يقضي خضر خضور، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، ساعاته الأخيرة في بيروت، بعد أن قرر المغادرة، إثر تضرر معظم محتويات منزله جراء الانفجار، وبعد عامين من الإقامة في بيروت. يخلص خضور إلى أن مشكلة هذا البلد انه «مكنتن إذ أن كانتونات لبنان الاجتماعية قد تعيق وتصعب التغيير المنشود».
ويلاحظ أن «الحراك الشعبي اختار ساحة الشهداء لأنها ساحة عامة ليست منتمية لمنطقة سكانية محددة، وهو ما جعل إمكانية اجتماع أطياف متعددة من اللبنانيين ممكنا، رغم عدم انسجامهم تماما»، وفق ما يضيف خضور المتخصص في أبحاث الهوية والحدود لـ»القدس العربي».
غير بعيد عن بدارو، سن الفيل، أحد أهم الأحياء المسيحية في بيروت، حيث تقع مشاحنات بين الحين والآخر وسط الأطراف المسيحية نفسها، خصوصا بين أنصار القوات اللبنانية وبين «التيار الوطني الحر» بزعامة، جبران باسيل، فضلاً عن أنصار حزب «الكتائب» الذي يقوده حالياً سامي الجميل.

الخندق العميق يتربص بساحة الشهداء وتوتر دائم في سن الفيل

ويمكن تقسيم مناطق النفوذ في سن الفيل بين الثلاثي المسيحي، بثلاث مناطق، الأولى القريبة لحرش ثابت، وفيها الكثير من أنصار «الكتائب» ويسكنها بيت الجميل، والثانية منطقة فقيرة يتسع فيها نفوذ «القوات اللبنانية»، وهي مجاورة لحي النبعة الشيعي الموالي لـ»أمل» و»حزب الله»، وهو خط تماس قديم في الحرب الأهلية، وكثيرا ما شهد مناوشات بين الطرفين، القوات وأمل.
أما المنطقة الثالثة فهي التي تتوسطها كنيسة السيدة وشارع مار الياس، حيث تتواجد القوى المسيحية الثلاث، ومنذ انطلاق المتظاهرات، حدثت عدة مشاحنات بين أنصار جعجع من جهة وأنصار عون من جهة أخرى، ومن الشائع جدا وقوع ملاسنات بين أصحاب المحال التجارية، خصوصا عند سماع أنصار عون لعبارات المتظاهرين التي عادة ما تركز على شتم الرئيس عون وصهره جبران باسيل. صحافي من سن الفيل يوضح أن هناك شعورا مسيحيا متصاعدا يعارض هيمنة حزب الله، ويعتبر تيار جعجع أبرز ممثليه، وينظر لعون باعتباره قد «ورط» المسيحيين بالتحالف مع «حزب الله» وأعاد إحياء نزاعات دامية بين عون وجعجع خلال الحرب الأهلية. وحسب سكان محليين تحدثت إليهم «القدس العربي» بعد عودتهم من مظاهرات ساحة الشهداء، فإنهم يتهمون تيار عون الذي يسيطر على بلدية سن الفيل، بتسهيل دخول أنصار نبيه بري بدراجاتهم النارية من النبعة، مما يشكل استفزازا للسكان، إلا أن ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، والمقربة من «التيار الوطني الحر» تنفي لـ»القدس العربي» هذه الاتهامات، وتقول إن «التداخل بين الأحياء الشيعية والمسيحية هو من يسمح بدخول الشباب من الجهتين إلى أحياء بعضهم».
وتضيف: «بشكل عام الشيعة أجرأ في اقتحام أحياء الآخرين، لأنهم يشعرون بفائض القوة، أما التيار الوطني الحر فهو لا يملك سلاح، وليس لديه عناصر شبابية للاشتباك، ولا يملك مفاتيح المناطق ليسمح أو يمنع، وأهل التيار بمناطق خطوط التماس يشعرون بالاستفزاز مثلهم مثل بقية السكان، بشكل أساسي جماعة حركة أمل هم الأكثر استفزازاً في هذه التصرفات ومعظمهم يحمل احيانًا أعلام حزب الله لتوريطه معهم».
وتواصل «حركة أمل وحزب القوات اللبنانية، يختلفون قليلاً في الأزقة ثم يقطفونها سوياً في السياسة»، وترى أنه «كلما انحشر السياسيون في لبنان يزجون بجماعاتهم في الطريق، أمل والحزب يشتبكون مع السنة ومع المسيحيين في الشياح وعين الرمانة، جنبلاط يقطع طريق الجنوب، سعد الحريري يشتبك مع الشيعة في طريق الجديدة». عادة ما تقع مواجهات تصل لإطلاق النار وقذائف الإر بي جي، بين أنصار تيار الحريري من السنّة في طريق الجديدة، ومنطقتين شيعيتين ملاصقتين هما بربور والغبيري – الشياح.
وقبل أيام قليلة، أغلق الجيش اللبناني منطقة قصقص، ليفصل بين طريق الجديدة والشياح، بعد عدة حوادث، كان آخرها التعرض لشابين من أنصار «حزب الله» بالضرب خلال مرورهما في قصقص بطريقهما للضاحية الجنوبية، مما آثار سكان الضاحية الجنوبية، وهدد باندلاع اشتباكات دموية، لولا تدخل الجيش وزعماء الطرفين.
ويشتهر هذا الطريق بكونه خط تماس عالي التوتر منذ سنوات، ويتحدث أحد سكان حي الشياح، عن معايشته لأحد أشهر تلك الاشتباكات قبل نحو سبع سنوات، ويقول لـ «القدس العربي»: «الاشتباكات التي تصل لحد إطلاق النار خلال التظاهرات الأخيرة، بيننا وبين شباب طريق الجديدة، تعود لحوادث تتكرر منذ سنوات، وأحدى أشهر تلك الحوادث هو ما حصل عام 2013 عندما أقدم شبان من حركة أمل على حلق لحية شيخين سنيين خلال مرورهما في الخندق الغميق، فانتشر شبان طريق الجديدة على طريق قصقص، وقطعوا الطريق المؤدي للضاحية الجنوبية، وكنت متواجدا في حافلة ركاب فان رقم4 التي عادة ما تقل سكان الضاحية الجنوبية العائدين نهاية اليوم من الحمرا، وتعرضنا للضرب وتكسير الحافلة من قبل شباب طريق الجديدة، قبل أن يتمكن الجيش من التدخل والفصل».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية