بين ألليندي وزيلنسكي

حجم الخط
5

لم يهرب الرئيس التشيلي الأسبق سلفادور ألليندي أمام هجوم القوة الغاشمة للسلطة الانقلابية بقيادة الجنرال بينوشيه، ورفض الاستسلام، فتحول مقتله (وثمة رواية تقول إنه انتحر) إلى أسطورة ثورية ألهمت الحركات اليسارية عبر العالم طوال السبعينيات وما بعد، بما لا يقل عن إلهام أسطورة تشي غيفارا للحركات الشبابية أواخر الستينيات.
كان ألليندي أول رئيس إشتراكي يصل إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، وهذا نموذج فريد خارج السياق المألوف الذي لا يصل فيه اليساريون إلى الحكم إلا بنتيجة ثورة أو انقلاب عسكري، فيقيمون نسخة ما من “دكتاتورية البروليتاريا” التي عنت في الواقع دكتاتورية الحزب وقيادته وأمينه العام في آخر المطاف. كان هذا السياق مما يعزز التأويل الماركسي – اللينيني القائل إن النظام الديمقراطي ليس إلا تمويهاً خبيثاً يخفي تحته “دكتاتورية الطبقة البرجوازية”، فلا تمييز بين الحكم الديمقراطي في بريطانيا مثلاً والحكم النازي في ألمانيا الثلاثينيات. وبسبب ميزان القوى المختل سلفاً لصالح البرجوازية، لا يمكن تغيير النظام إلا بواسطة ثورة سلمية أو مسلحة، وغالباً مسلحة. أما وقد نجح ألليندي في الخروج من هذه الترسيمة، فقد خلخل ذلك ركناً أساسياً من أركان التعاليم السوفييتية، وهو ما يفسر عدم حماسة الشيوعية السوفييتية لـ”النموذج التشيلي”، فكان إسقاطه على يد الطغمة العسكرية، وبمساهمة فعالة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، “حلاً” لمشكلة وإبعاداً لخطر من وجهة نظر القيادة السوفييتية والحركة الشيوعية العالمية الدائرة في فلكها.
سقطت السلطة الاشتراكية في تشيلي و”عادت الأمور إلى نصابها” فارتاح الأمريكيون والسوفييت معاً، على رغم الفظاعات التي مارسها الجنرال بينوشيه بعد استيلائه على السلطة بحق الشيوعيين والاشتراكيين وعموم السكان، لكن أثر النموذج لم يزل كأنه لم يكن، كما أراد له خصومه من الجهتين، بل شكّل فاتحةً لتحولات كبيرة في الحركة الشيوعية العالمية، كانت أبرز نماذجها في نظرية “الشيوعية الأوروبية” التي تبنتها أكبر الأحزاب الشيوعية في أوروبا، الإسباني والإيطالي والفرنسي، وقامت أساساً على التخلي عن فكرة “دكتاتورية البروليتاريا” والاعتماد على صناديق الاقتراع في الوصول إلى السلطة وبناء النظام الإشتراكي بلا إراقة دماء أو استئصال طبقات اجتماعية، بل من خلال توافقات اجتماعية عابرة للطبقات.
ما هو وجه التشابه بين ألليندي 1973 والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اليوم؟
زيلينسكي رئيس منتخب لدولة استقلت حديثاً عن الإمبراطورية السوفييتية، وصل إلى السلطة في عام 2019، في أعقاب تداعيات ثورة 2013 – 2014 “البرتقالية” التي أسقطت حكومة تابعة لروسيا ومضت في طريقها الخاص، تسعى إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي للاحتماء من الجارة القوية روسيا التي يقودها رجل لديه طموحات توسعية امبراطورية. ليس للرجل تاريخ عريق في السياسة، بل هو ممثل كوميدي محبوب من الشعب، لا شك أنه أدرك أن مهمته في قيادة بلاده نحو استكمال مهمات متطلبات الاستقلال والتحول الديمقراطي لن تكون سهلة، بالنظر إلى أن رد بوتين على ثورة الشعب الأوكراني لم تتأخر حين ألحق شبه جزيرة القرم بروسيا واستمر في تشجيع الانفصاليين الروس في دوندباس. وفي العام 2014 لم يكن لدى أوكرانيا جيش قادر على الدفاع عن البلد، وكان مخزون السلاح والذخيرة المتبقي من العهد السوفييتي عبارة عن خردة لا تصلح للاستخدام.

 قرار المقاومة بذاته أربك الروس وساهم في خلق رأي عام عالمي مناصر لأوكرانيا، وحوّل المساندة الغربية اللفظية إلى إجراءات عملية خانقة لروسيا، من خلال العقوبات الاقتصادية والدعم بالسلاح

في السنوات الفاصلة بين 2014 واليوم أعيد بناء الجيش من الصفر، وتم تسليحه من جديد وإن لم يكن بالقدر الكافي لمواجهة عدوان بحجم العدوان الروسي. لكنه اكتسب خبرة قتالية في القتال ضد الانفصاليين الروس في دونباس، وتتحدث التقديرات اليوم عن نحو 40 ألف جندي يشكلون قوام الجيش الأوكراني بين جنود عاملين وجنود احتياط ممن أنهوا خدمتهم العسكرية وعادوا إلى الحياة المدنية.
يعتقد خبراء أن الرئيس الروسي لم يخطط لحرب شاملة وفق الخطط التقليدية المعروفة، بل لعملية عسكرية محدودة ومؤلمة من شأنها ترويع الأوكرانيين ودفعهم إلى الاستسلام السريع. ويلفتون النظر إلى أن الجيش الروسي لم يختبر في حرب حقيقية منذ الحرب العالمية الثانية، بل خاض “عمليات عسكرية” ضد أهداف سهلة كما في غزو المجر وتشيكوسلوفاكيا (1956، 1968 على التوالي) أو في الشيشان في التسعينيات، أو في سوريا وليبيا اليوم، أما في أفغانستان فقد تعرض لهزيمة مدوية شكلت مقدمة لانهيار الإمبراطورية السوفييتية. لذلك إذا لم يستسلم الأوكرانيون بسرعة ستضيق الخيارات أمام بوتين لأن التراجع عن أهدافه المعلنة لم يعد ممكناً.
لعب زيلينسكي دوراً مهماً في شحن عزيمة شعبه للمقاومة، ورفض عرضاً أمريكياً لترحيله لينجو بنفسه، وأكد على المقاومة في كل ظهوراته الإعلامية. لا شك أنه موقف شجاع فيه مخاطرة كبيرة، شخصية ووطنية معاً. فمن شأن انتصار عسكري روسي أن يجعله يتحمّل مسؤولية مقتل الجنود والمدنيين ودمار البنية التحتية والعمرانية وانتهاء استقلال أوكرانيا جميعاً، إضافة إلى مصيره الشخصي والعائلي. أما إذا فشل الروس في حملتهم فسوف يتحول إلى بطل وطني حتى لو تم اغتياله من قبل الروس.
هذا هو القرار الشجاع الذي يجمع بين ألليندي في قصره الرئاسي المطوق في 1973 وزيلنسكي في بلده المطوق والمحتل من قبل الجيش الروسي. ففي الحالتين ثمة قوة غاشمة تسعى إلى فرض إرادتها على رئيس الدولة لتركيع الدولة وإخضاعها. مات ألليندي وسقطت التشيلي تحت حكم بينوشيه، لكن إرث الليندي بقي وألهم الأجيال اللاحقة من التشيليين.
بالمقابل لا يمكننا أن نعرف الآن هل تخسر أوكرانيا الحرب أم لا، لكن قرار المقاومة بذاته أربك الروس وساهم في خلق رأي عام عالمي مناصر لأوكرانيا، وحوّل المساندة الغربية اللفظية إلى إجراءات عملية خانقة لروسيا، من خلال العقوبات الاقتصادية والعزل السياسي والرمزي والدعم المادي بالسلاح والذخيرة للجيش الأوكراني. كل هذا فاق التوقعات، وبخاصة توقعات بوتين نفسه، وهو ما دفعه إلى التلويح بالسلاح النووي.
كانت مقاومة أوكرانيا المحتملة لروسيا تشبه، في تصوراتنا، مقاومة نملة لفيل، وهو ما شجع بوتين على الاندفاع في مغامرة عسكرية تصورها خاطفة يعقبها استسلام أوكراني. قرار المقاومة هو الذي غير كل الحسابات.

٭ كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول يعرب القحطاني:

    من يقارن الثرى بالثريا..

  2. يقول Passerby:

    المقارنة غير صحيحة، ما حصل في تشيلي إنقلاب عسكري مدعوم أمريكياً بقيادة بينوشيه أما في الحالة الأوكرانية فهو غزو مباشر من قبل دولة جارة أي مبدأ الأخ الأكبر الذي يريد أن يسيطر على إخوته ويعلن نفسه وصي عليهم وهو بحد ذاته قاصر (وليس قيصر كما يسمسه البعض)!.

    1. يقول محمد شهاب:

      المقال يقارن إستجابة بينوشيه و زيلينسكي للتحدّي الذي هو كما ذكرت الإنقلاب في شيلي و الغزو في أوكرانيا

  3. يقول خيراني مروان علي:

    نموذج ألليندي لا يقارن به حسب رأيي وضع زيلنسكي بل يتماثل بنموذج محمد مرسي رئيس مصر المدني ضحية “تصحيحية” تواطئ عليها اهل الشرق واهل الغرب كلا النموذجين ان في الشيلي او في مصر كان يراد لهما الوأد اما زيلنسكي و أوكرانيا فلهما نموذج تاريخي اخر يماثلهما لكن ليس ألليندي قطعا

  4. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    ربما المقارنة ليست عادلة لأن الليندي لم يدعمه أحد بينما زيلنسكي يتمتع بدعم كبير أروبي أمريكي. وحتى في سوريا لو حصلت المعارضة على مثل هذا الدعم لما بقي بشار الأسد ونظامه، ولما احتلت روسيا سوريا! بل وربما تعاون أمريكا أو أوباما مع بوتين شجعت الأخير على توسيع سيطرته في العالم وعلى هذه المغامرة في أوكرانيا. لكن بلا شك مقاومة أوكرانيا وشجاعة زيلنسكي لمقاومة الإحتلال الروسي فاجأت بوتين وجعلت حساباته تتخبط! لنرى أعتقد أنها ستكون صدمة كبيرة لبوتين إن شاء الله وسيصل صداها إلى بشار للأسد وإن شاء الله.

إشترك في قائمتنا البريدية