بين أمريكا وروسيا والصين: تعقيدات الصراع الدولي والتحديات العالمية الكبرى

لم تفلح المنظمات الأممية والهيئات الدولية إلى الآن في تحقيق ما تشكلت لأجله وهو، نشر الاستقرار وتوطين السلام بين الأمم. والنظام العالمي الذي تقف الأمم المتحدة في قلبه، تفاقمت فيه الحروب على الموارد، وأشكال الإفلات من العقاب، والجرائم ضد الإنسانية والتمييز العنصري. وأصبح الضغط الاقتصادي والعقوبات المالية والتجارية، وتدمير الدول من الداخل، بمثابة الصيغ الحديثة للاستعمار والرغبة في الإخضاع، وهي الظواهر التي لا يستطيع العالم السيطرة عليها أو التحكم فيها.
وما يحدث من عقوبات أمريكية تجارية على روسيا والصين وإيران، وما يتهدد كل دولة ترغب في شراء منظومة تسلح روسية، ينسجم مع رغبات واشنطن في تطويع الأسواق أمام الشركات الاستثمارية الأمريكية، واستعادة تفوقها الاقتصادي والمالي، وهي لا تزال ترفض وجود نظير استراتيجي بإمكانه إبقاء العلاقات الدولية منصفة على قاعدة التشارك في حفظ السلم والأمن الدوليين، وفي تماسك النسيج التنظيمي العالمي، وتعميم المصالح المشتركة. بالنتيجة، الاحتقان يتضاعف بين القوى الكبرى، ويضع العالم على صفيح ساخن، وهمهم الوحيد هو البحث عن مكانة مهمة يضمنها الأداء الاستراتيجي الذي يتجاوب مع متغيرات النظام العالمي.

ضمن المتغيرات الدولية وواقع النظام العالمي وتوزيع القوة الاستراتيجية الجديد، نجد أمريكا تلاحق الأحداث، ولا تصنعها كما كان الأمر في السابق

المصالح الاستراتيجية الأوسع للولايات المتحدة مهمة، وبايدن لم يخفِ أن سياسته الخارجية تقوم على صراع بين ديمقراطيات تتزعمها بلاده، وأنظمة استبدادية خير من يمثلها في نظره، الصين وروسيا. وعنوان قمته الافتراضية للديمقراطية، المتمثل في وضع أجندة إيجابية للتجديد الديمقراطي، والتصدي لأكبر التهديدات التي تواجهها الديمقراطيات اليوم، من خلال العمل الجماعي، خضعت من جديد لمنطق التقسيم الذي وضعه المحافظون، بين محور الشر ومحور الخير. ومرة أخرى تفضل الولايات المتحدة خلق خطوط تقسيم جديدة، وتفريق الدول بين تلك الجيدة بحسب رأيها، والأخرى السيئة، لكنها لا تخجل في أن تستدعي من الشرق الأوسط فقط إسرائيل، وتضيف العراق الذي صادرت خيراته ودمرته، ولم تُدعَ إلى هذه القمة أي من الدول العربية الحليفة تقليدياً للولايات المتحدة، مثل مصر والسعودية والأردن وقطر والإمارات، إضافة إلى تغييب تركيا واستدعاء البرازيل وبولندا وغيرهما من الدول المثيرة للجدل بشأن واقع الديمقراطية والحريات لديها. تتركز المخاوف الأمريكية في أن منح الصين وروسيا التكنولوجيا المدنية والعسكرية الحديث لطهران، قد يُتيح لإيران الفرصة في التحول إلى قوة إقليمية متفوقة، يصعب التصدي لها أو إخضاعها في المستقبل، خاصة أن الصين زادت من نفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري في الشرق الأوسط، ولديها قناعة مفادها أن إيران هي القوة الآسيوية الوحيدة المناسبة عسكرياً وجغرافياً لمساعدتها في إنشاء توازن مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والاضطلاع بدور الضامن الأمني للمصالح الاقتصادية والحيوية لبكين. في الأثناء، عقدت الصين علاقة وثيقة مع روسيا، أصبحت قائمة على تقاطع للمصالح الحقيقية بينهم،. وتشكيل بكين لنوعٍ من القطبية الثنائية مع موسكو في مواجهة نفوذ الولايات المتحدة بين دول المنطقة، جعل الشرق الأوسط على أعتاب حقبة ما بعد أمريكا. وقد أتاح تراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط الفرصة للقوى الشرقية، خاصة روسيا والصين، لتعزيز نفوذها في هذه المنطقة الجيوسياسية المهمة، وفي الوقت نفسه زادت ثقة دول المنطقة في اتباع أساليب التنمية الصينية والروسية، وأصبح النموذجان الصيني والروسي، الأشد جاذبية بالنسبة إلى دول كثيرة. وضمن المتغيرات الدولية وواقع النظام العالمي وتوزيع القوة الاستراتيجية الجديد، تجد أمريكا نفسها تلاحق الأحداث، ولا تصنعها كما كان الأمر في السابق، زمن حقبة الاستعمار الأمريكي المناهض للاستعمار، العبارة التي أطلقها نيل فيرجسون على المهمات التي نفذتها الولايات المتحدة خارج أراضيها، أي منذ التدخل العسكري في البوسنة وكوسوفو، الذي سُوغ بحجة أنه كان قد تم لأسباب إنسانية، في الوقت الذي دشن هذا التدخل بداية عهد القوة المقبلة من خارج المنطقة، وكانت هذه التحديات من جملة الأمور التي ساعدت على ارتقاء الولايات المتحدة الأمريكية إلى مصاف القوى العظمى في العالم. اليوم هناك واقعية جيوستراتيجية مغايرة ضمن تعدد الأقطاب، فالرهان على التسلح الذي كان سائدا في ظل شروط تكافؤ القوى التقليدي، حُول إلى رهان على الابتكارات التكنولوجية أولا، والإبداعات الاستراتيجية ثانيا. والصيغة الجديدة لقوى الهيمنة تكمن في تخليها عن التورط في اقتحام بؤر التوتر، لأنها خسرت الكثير من الأرواح والمعدات في تجاربها السابقة، وأصبحت تفضل استخدام المجال الجوي لفرض السيطرة، إلى جانب استخدام الوكلاء على الأرض على نحو التدخل الجزئي والانتقائي، الأسلوب الذي قوبل في السنوات الأخيرة بصيغة جديدة اعتمدها المعادون للسلطان الامبراطوري، تجسدت في الإرهاب الدولي بديلا من حرب العصابات التقليدية. وبالمحصلة فإن المخاطر التي تحف بالدول ذات البنى الامبراطورية لم تعد تكمن في خطر ضرب أراضيها، بل صارت تكمن في الأعباء المالية لتدخلاتها الخارجية، لذلك ركزت على استراتيجية القوة الناعمة.
تنامي طموح بكين في التحول إلى قوة عظمى ذات تأثير أكبر في النظام السياسي الدولي، أصبح أمرا واقعا وجليا، سواء تحقق ذلك من خلال التحالفات السياسة مع بعض دول الشرق الأوسط، أو مع قوى دولية أخرى، أو حتى من خلال القوة الدبلوماسية الرامية إلى إزاحة الولايات المتحدة عن عرش القوة الخارجية الرئيسية في الشرق الأوسط. والواقعية الاقتصادية والتجارية والنفوذ الاستثماري هي العناوين الكبرى لحضور العملاق الآسيوي في أغلب دول العالم، وبالأخص في المناطق الاستراتيجية والمؤثرة. وعملت روسيا والصين على دعم النظام السوري عسكرياً، بدافعٍ من رغبتهما في إضعاف الحركات المتطرفة، وتحدي النفوذ الغربي والأمريكي. وقد نجح التحالف الصيني الروسي مع إيران في إطالة أمد الأزمة السورية بدعم تماسك النظام السوري، وفرض إيران لتصبح طرفاً من أطراف التفاوض لحل الأزمة، بعد استبعادها لعدة سنوات. وفي تقدير الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، فإن ميزان القوى في الشرق الأوسط قد تطور من القطبية الأحادية إلى القطبية الثنائية، ثم من القطبية الثنائية إلى التعددية القطبية. ومع توجه دول الشرق الأوسط نحو سياسة التطلع نحو الشرق، بادرت الدول الآسيوية من جانبها إلى الانفتاح على الغرب، وتطوير علاقات الشراكة الاستراتيجية مع دول الشرق الأوسط. التحالف الروسي الصيني أصبح أمراً طبيعياً وحتمياً، خاصة بعد ما قام به الحزب الديمقراطي الأمريكي، الذي أطاح بترامب باستخدام حملته الشرسة ضد روسيا، فقام بشيطنتها ودمر العلاقات معها. وإدارة بايدن تحاول أن تظهر على أنها حازمة في علاقاتها مع موسكو، لكن الأمر لن يصل في النهاية إلى مواجهة مباشرة بين البلدين، لأنهما يدركان خطر مثل هذه الحرب على كليهما. فالمسألة عنوانها الدمار الشامل، وبالتالي أقصى ما يمكن أن تبلغه هذه التهديدات والحرب الكلامية هي حروب بالوكالة، كما يحدث في أكثر من منطقة حول العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط. والأمر نفسه ينطبق على الصين التي تُعدها الولايات المتحدة «خطراً استراتيجيا» بما يعنيه ذلك من توسيع قوس المواجهة لحماية المصالح الأمريكية والدفاع عن قيادة واشنطن للنظام العالمي، ضد خطرين قائمين يفاقمان التحدي العسكري والاقتصادي. ومن المستبعد تصور حدوث صراع واسع النطاق بين القوى العظمى العالمية، وبالتالي في ظل هذه الظروف، فإن التجارة والديْن يعطيان دوافع اقتصادية كبيرة من أجل تجنب الصراع الذي قد يدفع الجميع ثمنه غاليا. أي شيء آخر سيكون غير عقلاني بمنتهى البساطة فقط «إذا ما كان العالم بهذه البساطة».
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ميساء:

    القوى الكبرى تتصارع لتسيطر في الأخير

    1. يقول العبيدي:

      صحيح ميساء. تلك هي المعادلة الجيوستراتيجية. دام حضورك

  2. يقول جميلة:

    بعد أن كانت امريكا غير محتاجة للعالم، في بداية القرن العشرين، بل و أظهرت الحرب العالمية الاولى و الثانية مدى احتياج العالم و اوروبا الغربية إلى القوة الأمريكية و قد كان الغرب مدينا لأمريكا و هيمنتها بالاستقرار و السلم و الحماية و قد كانت سنوات الهيمنة تلك قد مكنت امريكا من تجميع ابعاد القوة الامبريالية كلها اقتصادية و عسكرية و ايديولوجية و لكن مع بداية الالفية الثالثة وجدت أمريكا نفسها في حاجة شديدة إلى العالم خاصة في المجال الاقتصادي هكذا حلل الكاتب الفرنسي ايمانويل تود في كتابه ما بعد الإمبراطورية،حيث تعرض لنظرية روبير جيلبين الذي تنبه في Global political Economy الى نقاط الضعف المحتملة في النظام الاقتصادي الامريكي ، فيما اذا نجحت أوروبا و اليابان و الصين في تهيئة مناطق نفوذها لان ذلك يؤدي إلى الاستغناء عن أمريكا بوصفها مركز العالم ثم استعراض الكاتب تفسيرات بريرنسكي الذي اعتبر نظريته الاكثر توفيقا عندما يؤكد أن مركز العالم أصبح بعيدا عن العالم المألوف .و أخيرا قال الكاتب لا داعي للفزع و التنديد بأمبراطورية هي في وضع التحلل بعد مرور تلاثة عقود على انهيار الإمبراطورية السوفيتية .شكرا استاذ العبيدي على المقال الرائع .

    1. يقول العبيدي:

      صحيح تماما جميلة. تلك هي السياقات التاريخية. والمؤسف أنّ المفاهيم الأخلاقية للمجتمع الدولي، تختفي حين يتعلّق الأمر بالدّول النّامية والفقيرة. ورابطة القوميات المشتتة في المنطقة، مازالت تتنافس على الاندماج في محاور دولية أو إقليمية، لا علاقة لها بالذاتية العربية، في نوع من التبعية المذلة خارج مظلة الأمن القومي والمصالح المشتركة. وهي واقعية تفضح الأداء الاستراتيجي الهزيل، الذي لا يتجاوب بشكل وازن مع القضايا الدولية، ولا يبحث عن الندية والتعامل المجزي، في عالم مازال يسوده منطق القوة. ويعكس التوظيف غير الموضوعي للمرجعية الدولية، والرغبة في الإبقاء على التفوق الغربي، والتحكم في الآخر وتركه في حالة الاعتماد على الاحسان الدّولي.
      دام حضورك جميلة وشكرا جزيلا

    2. يقول محمد:

      الأداء الإستراتيجي العربي مرهون بالمصالح الشخصية لصناع القرار داخل الأنظمة السياسية العربية الفاقدة للشرعية أصلاً، للأسف مازال محكوم علينا بالتبعية لأننا دول ذات سيادة مزيفة أو منتهكة، لن يكون لنا أي وزن على المستوى الدولي ما لم نصنع جبهة داخلية قوية ونرسخ الشرعية في الأنظمة السياسية لنتجه بها نحو التكامل الإقتصادي والسياسي في إطار محور طنجة جاكرتا.
      شكراً على المقال الرائع أستاذ لطفي.

  3. يقول العبيدي:

    صحيح ما قلته يا أستاذ محمد. ذاك ما ينقصنا. شكرا لك ودام حضورك.

إشترك في قائمتنا البريدية