الأرجح أنّ الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما سوف يظلّ، حتى إشعار آخر على الأقلّ، هو صاحب التعليق الأكثر «نجومية» في الربط بين سفينة «أدريانا» التي كانت تحمل 750 لاجئاً، وغرقت وأغرقت غالبية ساحقة من هؤلاء، وفي عدادهم 100 طفل؛ وبين انفجار الغواصة السياحية «تيتان» بركابها المليارديرات الخمسة، في قيعان المحيط الأطلسي على مقربة من موقع الفرجة الذي تاقوا إلى مشاهدته، عند حطام سفينة الركاب العملاقة الأشهر «تيتانيك». ففي العاصمة اليونانية أثينا (وليس في أيّ مكان آخر!) استنكر أوباما الفوارق الهائلة بين التغطية المحدودة لأخبار سفينة اللاجئين مقابل التغطية «دقيقة بدقيقة» لأخبار الغواصة السياحية، فاستحقّ التصفيق الحادّ من قاعة حاشدة. ثمّ، في حوار مع شبكة CNN، ذهب إلى درجة الحديث عن مستويات «بذيئة» من انعدام المساواة في أخبار اليوم، الأمر الذي يدلّ على «التباين» الهائل في النظر إلى فُرَص البشر في الحياة.
ولا يصحّ لعاقل، صاحب ضمير يتحلى بالحدود الدنيا من إنصاف حوليات التاريخ، قبل السجلات الأخلاقية والحقوقية والقانونية؛ أن يتناسى مسؤولية رجال من أمثال أوباما، وقبله فرنكلين روزفلت وهاري ترومان ودوايت أيزنهاور وجون كنيدي ولندن جونسون وريشارد نكسون وجيرالد فورد وجيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش الأب وبيل كلنتون وجورج بوش الابن، وبعده دونالد ترامب وجو بايدن؛ عن وجود ملايين البشر على متن قوارب لجوء ونزوح قسري تمخر عباب البحار والمحيطات، حاملة بشراً آملين في النجاة من الحروب والاستبداد والمجاعات والأوبئة. كما لا يجوز للعاقل إياه أن يتناسى أنّ أوباما هذا، هو ذاته صاحب «الخطّ الأحمر» الشهير بصدد استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية والجرثومية؛ وأنّ مقادير الزيف والمخادعة خلف ذلك الخطّ، والصفقات التالية مع الكرملين، كانت في عداد أبرز الأسباب خلف موجات النزوح القياسية سنة 2015 و2016.
ليس هذا الطراز من النفاق جديداً على أوباما، أو على نظرائه في مواقع القرار على امتداد القوى الكبرى ذات القبضة المحكمة على مقدرات العالم السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي تتسبب في اندلاع الحروب أو تمدّ نيرانها بأسباب إضافية لاشتعال أشدّ وأدهى؛ الأمر الذي يقف خلف القسط الأعظم من عوامل اليأس والبؤس الكامنة في قلب موجات النزوح أو التهجير أو التطهير العرقي أو اللجوء إلى المجهول، ويقف أيضاً خلف سياسات التضييق وإغلاق الحدود التي تعتمدها تلك القوى في وجه اللاجئ أو النازح أو المهجَّر. ولن يكون جديداً، في المقابل، أيّ طراز آخر من نفاق يأمل في أن تتساوى أخبار قارب الصيد «أدريانا» مع أخبار الغواصة السياحية «تيتان»؛ إذْ أنّ المساواة هنا تتجاوز الفارق بين أجناس البشر وأصناف الاضطرار أو الاضطهاد أو المسغبة، في موازاة الرفاه والتخمة والدعة. فإذا كانت المصادفة، وحدها، وراء وجود جنسيات باكستانية على ظهر القارب وداخل الغواصة؛ فإنّ ذلك التصادف لا ينطوي على أيّ نمط من التوازي يفسّر حقيقة أنّ باكستاني «أدريانا» جائع أو مطارَد أو يائس، وسائح «تيتان» مرفّه متخم مبذّر…
لا يصحّ لصاحب ضمير يتحلى بالحدود الدنيا من إنصاف حوليات التاريخ، قبل السجلات الأخلاقية والحقوقية والقانونية؛ أن يتناسى مسؤولية رجال من أمثال أوباما، عن وجود ملايين البشر على متن قوارب لجوء ونزوح قسري تمخر عباب البحار والمحيطات
لا حاجة، بالطبع، إلى أيّ جهد في البحث عن أسباب وجود مواطنين سوريين بين المئات من ضحايا القارب الغارق، فالأرقام التي تعتمدها الأمم المتحدة ذاتها تشير إلى 6.9 مليون لاجئ خارج سوريا، ونحو 7 ملايين داخل البلد ضمن عشرات المخيمات في الشمال الشرقي أو الشمال أو الشمال الغربي. ولا يساجل كثيرون (ما خلا طبول «الممانعة» وتجميل النظام أو القتال معه لتشريد السوريين وتهجيرهم) حول مسؤولية النظام السوري عن هذه الحال، وبالتالي ليست مفاجأة أن تتجاور الجنسية السورية مع الجنسيات الأفغانية والباكستانية والمصرية والفلسطينية. وبين أكثر المفارقات المأساوية المقترنة بحكاية تعدد الجنسيات هذه، أنّ غالبية الضحايا من الفلسطينيين لم يبحروا إلى المجهول فراراً من الكيان الاستيطاني والعنصري الإسرائيلي، وهو اليوم الاحتلال الأبشع والأشدّ وحشية وفاشية؛ بل غامروا بمغادرة مخيماتهم وأماكن إقامتهم في سوريا ذاتها، هرباً من عنف نظام لا يقلّ وحشية وبشاعة، جعل من التنكيل بمخيّم اليرموك في ظاهر العاصمة دمشق درساً «تربوياً» لكلّ فلسطيني يفكّر بالتضامن مع أبناء الشعب السوري، ومشاطرتهم التطلّع إلى الحرية والديمقراطية والمواطنة.
وكان تعبير «سوريا المفيدة» الذي أطلقه بشار الأسد شخصياً منذ العام 2015 وبعد 4 سنوات على انطلاق الانتفاضة الشعبية، بمثابة تكريس مبكّر لنهج النظام في اقتطاع حصّة جغرافية، ولكن ديمغرافية وطائفية كذلك، إزاء آفاق تقسيم البلد كما لاح آنذاك أنها أخذت ترتسم تباعاً وتدريجياً. ولهذا كان النزوح القسري، المعتمد أوّلاً على استهداف المناطق المدنية بالبراميل والأسلحة الكيميائية، تطبيقاً عملياً للمنهج إياه ولكن من زاوية التهجير و/ أو إفراغ المناطق من سكانها الأصليين غير المطابقين لمواصفات تنقية «سوريا المفيدة». وليس غريباً أن يكون اهتمام إعلام النظام السوري بواقعة غرق «أدريانا» وحقيقة وجود مئات السوريين بين الضحايا والمفقودين، محدوداً تماماً أو منعدماً، يقترب كثيراً من سوية التجاهل عن سابق عمد؛ يقتفي في هذا صمت النظام الرسمي، بما يوحي أنّ الغرقى ليسوا أبناء تلك الـ»سوريا المفيدة» الذي يريدها النظام ويديرها. ولا يُستبعد أنّ بعض دوافع التعمية عن النبأ مردّها أنّ غالبية الضحايا السوريين هم من أبناء محافظة درعا، صاحبة السبق في انتفاضة آذار (مارس) 2011؛ وربما لأنّ بعض وجهاء وناشطي حوران دعوا إلى ثلاثة أيام من الحداد، وإقامة صلاة الغائب على أرواح الغرقى.
وفي العودة إلى الرئيس الأسبق للقوّة الكونية الأعظم على الأرض، لم يكن أوباما يجهل ما فعلت سياساته، وأسلافه ومَن خلفوه، في سوريا وفلسطين ومصر والباكستان وأفغانستان، ولم يكن يُنتظر منه أن يقرّ بأيّ مستوى من الذنب؛ لكنّ انتهاجه النقد المنافق إزاء انعدام المساواة في تغطية مصائب تلك السياسات غابت عنه، مع ذلك، صيغة تسمية الأشياء بمسمياتها، كأنْ يتطرق مثلاً إلى مسؤولية القوى العظمى، وهي الديمقراطيات الغربية ذاتها، في تعطيل جهود المنظمات الإنسانية المستقلة التي تولّت عمليات إنقاذ سفن اللاجئين المهددة. وفي تقريرها الرئيسي السنوي الذي صدر بعنوان «الاتجاهات العالمية حول النزوح القسري» وجدت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أنّ عدد الأشخاص المهجرين بسبب الحروب والاضطهاد والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان وصل في نهاية 2022 إلى الرقم القياسي 108.4 مليون شخص، بزيادة تقارب 19.1 مليون شخص عن العام 2021، هي الأكبر على الإطلاق. ولم يكن السبب راجعاً إلى ازدياد أعداد اللاجئين، بل إلى نقصان أو شبه تغييب جهود الإغاثة المستقلة، بسبب لجوء الحكومات إلى تجريم عناصرها وإحالتهم إلى القضاء وحظر أنشطتهم.
هذه، على نحو أو آخر، سياسات تكريس «حدود مفيدة» ليس في أعالي البحار والمحيطات وحدها، بل داخل المياه الإقليمية ذاتها، وأياً كانت معدّلات افتقارها إلى القانون الدولي، أو قوانين حقوق الإنسان وقداسة الحياة والمواثيق الموقّعة حول اللجوء عموماً، والنزوح القسري خصوصاً. وإذا كان الأسد ينتسب إلى أعراف تلك الحدود من منطلقات غير غريبة عن نظام الاستبداد والفساد والكيميائي والبراميل المتفجرة والكبتاغون الذي يترأسه، فإنّ المنتسبين إليها من دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان وترفيه العباد وتنمية سياحات اليخوت والغواصات الخاصة؛ ليسوا أقلّ انسجاماً مع الأسد في هذا، بقدر ما هم أكثر معاضدة له… وانخراطاً معه!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس