جهود الولايات المتحدة الرامية إلى الحد من الانتشار النووي، متصفة بقدر مساو من النفاق، لأنها تُسلم بترسانة إسرائيل النووية، ولا تسمح بمساعي دول عربية أو إسلامية في الحصول على سلاح ردع، أو امتلاك قدرات مشابهة. وهذا ما يشجع إيران وأطراف أخرى، على السعي لامتلاك القوة التي تعادل قوة إسرائيل أو تفوقها في منطقة حيوية مليئة بكل أسباب التوتر، وهي محط أطماع قوى الهيمنة، ومسرحا للاستقطاب وصراع المحاور.
وللمسألة بعد أخلاقي قبل أن يكون سياسيا. فالولايات المتحدة الأمريكية تحولت منذ أواخر الستينيات إلى أداة فعلية للتوسع الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وجعلت نفسها بمثل هذا الانحياز المطلق، متواطئة في سلسلة الجرائم المقترفة ضد الفلسطينيين واللبنانيين ودول الطوق المجاورة للكيان المنبوذ في أوساط شعوب الأمة العربية والإسلامية.
ومثل هذه المسارات والوقائع التاريخية تفضح ما يسمى بجهود واشنطن الرامية إلى تعزيز الديمقراطية في الخارج. وتجعل نفاقها مضاعفا، حين تطالب الدول الأخرى باحترام حقوق الإنسان، وهي التي تسمح لإسرائيل بانتهاكها أمام أنظار العالم. ويتمخض هذا المسار عن الشبح المرعب المتمثل باحتمال تحول إسرائيل إلى وضعية الكيان المنبوذ للدول العنصرية الشبيهة بجنوب افريقيا، زمن حكم البيض. ولعل المفارقة التي أشار إليها جون ميرشايمر صحيحة، وهي أن وضع إسرائيل ربما كان أفضل، لو كان اللوبي الصهيوني اليهودي أضعف، وكانت السياسة الأمريكية أكثر توازنا وحيادا. ومن المؤكد أن حرمان الفلسطينيين من حقوقهم السياسية المشروعة، لم يجعل إسرائيل أكثر أمنا. يضاف إلى ذلك أن حملة اللوبي المتواصلة داخل الكونغرس الأمريكي، وبقية المؤسسات، والهادفة إلى خنق النقاش حول كيان الاحتلال، ظاهرة مَرَضية بالنسبة إلى الديمقراطية الأمريكية، التي باتت تعيش أزمة النموذج الليبرالي. فإسكات المتشككين عبر تنظيم القوائم السوداء وعمليات المقاطعة، أو من خلال وصم المنتقدين باللاسامية، انتهاك لمبدأ الحوار المفتوح الذي يشكل ركيزة الديمقراطية. ومن المحتمل أن تبقى منابر إعلامية وسياسية رسمية داخل أمريكا، متعاطفة مع تل أبيب بصرف النظر عن تعاقب الإدارات المنتخبة، التي لوحظ تشابه سلوكها إزاء ما تقترفه الآلة العسكرية والأمنية الصهيونية من أفعال لا يخفى على أحد أنها تتم بضوء أخضر أمريكي. في وقت كان بالإمكان أن تتبنى واشنطن سياسة شرق أوسطية مغايرة، تبادر من خلالها إلى توظيف نفوذها، لإجبار إسرائيل على صنع السلام. ويكون تصرفها أكثر تناغما مع مصالح الولايات المتحدة، ولا تراكم حجم العداء والكراهية تجاهها، الذي تدرك أن أحد أهم أسبابه هو تبنيها غير المشروط للاستعمار الإسرائيلي للأراضي العربية، وانتهاكه لكل الأعراف الإنسانية على مدى عقود، وهي قادرة على الدفع باتجاه بلوغ سلام عادل بين اسرائيل والفلسطينيين، ومكافحة التطرف، ودفع عجلة الديمقراطية في المنطقة، وكسر طوق الاستبداد والديكتاتورية.
الولايات المتحدة بحاجة لإعادة ترميم صورتها في العالمين العربي والاسلامي، وطموحات إيران النووية لا تشكل تهديدا وجوديا لأمريكا
الولايات المتحدة بحاجة ملحة إلى إعادة ترميم صورتها في العالمين العربي والاسلامي، وطموحات إيران النووية لا تشكل أي تهديد وجودي بالنسبة لأمريكا. أقله أنها ليست بحجم التهديد النووي السوفييتي سابقا، أو تهديد الصين النووية، أو كوريا الشمالية، التي استطاعت أمريكا التعايش معها. ناهيك من الدول التي سُمِح لها بامتلاك سلاح نووي، باعتبارها ضمن الحلف الرأسمالي، مثل الهند وباكستان وبعض دول أوروبا الغربية. وبالتالي تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تتعايش مع إيران نووية، ولكن إسرائيل لا ترغب في أن يزاحمها شريك نووي في الشرق الأوسط، وهي تواصل الضغط المطرد على الساسة الأمريكيين، من أجل دفعهم لمجابهة طهران، مثلما تم توريطهم في العراق. ولوحظ حجم جهود اليمين الإسرائيلي حتى آخر أيام إدارة ترامب المنتكسة بأحداث مبنى الكابيتول. وكان من شأن السياسة الأمريكية أن تكون أكثر اعتدالا في علاقة بإيران، أو بغيرها من الدول، التي تدخلت لإسقاط أنظمتها وتفكيك بنيتها المؤسساتية.
والحرب الوقائية أو الاستباقية بعيدة عن أن تكون خيارا جديا، لولا ضغط اللوبي الإسرائيلي، وانحياز المحافظين الجدد. وكل ما حدث منذ غزو العراق، وصولا إلى تقسيم السودان وتدمير ليبيا وسوريا، ليس حصيلة مثالية من وجهة نظر اللوبي الصهيوني، وإسرائيل تطمح إلى أكثر من ذلك. وفيما يبدو أن المبادرة الوقائية التي تعوض إخفاق الدبلوماسية، قد فشلت مع إيران، وتضاءلت فرص تحققها، رغم كل محاولات نتنياهو وتنبيهه إلى أخطار وشيكة نابعة من إيران نووية، وإقحام الحلفاء الجدد من بعض دول الخليج في نغمة العدو الجديد، وتخليهم عن تصنيف إسرائيل عدوا، ورغم الكم الهائل من العقوبات الاقتصادية، يظل الساسة الإسرائيليون يهددون باتخاذ قرارات أحادية، ويُحَذرون من فرضية إقدامهم على خطوات استباقية، إذا ما واصلت طهران التمسك ببرنامجها النووي. وهم يعلمون بأنهم بدون قرار من واشنطن لا يستطيعون اقتحام مغامرة بهذا الحجم. وإشاراتهم تلك، لا تتجاوز حدود رغبتهم في إبقاء أمريكا منتبهة لهذه القضية، واضعة إيران ضمن أولويات قضايا الأمن القومي، ما يبرر تزويد تل أبيب بأحدث الأسلحة الاستراتيجية. ولعل أفضل ما تتمناه إسرائيل هو عودة إدارة أمريكية شبيهة بفترة المحافظين الجدد، الذين كانوا بمثابة أبواق دعاية للرغبة الصهيونية في تدمير دول بعينها. ورغم أن توجيه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أحداث 11 سبتمبر باتجاه ايران، يعد أمرا سخيفا لإدارة مهزومة أصبحت تهذي بكلام غير منطقي لحظة رحيلها، فإن مفردات لقائه الإعلامي الأخير تتقاطع مع ما أدلى به أرييل شارون منذ نوفمبر 2002، عندما وصف طهران بمركز الإرهاب العالمي، الساعي إلى حيازة الأسلحة النووية. واعتبر وزير دفاعه بنيامين بن أليعازر أن العراق مشكلة، ولكن إيران أخطر من العراق. ومنذ ذلك الحين بدأ الدفع العلني بالولايات المتحدة نحو مجابهتها إيران وتغيير النظام فيها.
ومن المؤكد أنه لولا وجود أصوات إسرائيلية ضاغطة خارج أمريكا وداخلها، ولولا وجود الإيباك بشكل خاص، لكانت السياسة الأمريكية المتعلقة بالشرق الأوسط مختلفة نوعا ما. وأقلها أن تكون متوافقة مع مصالح الولايات المتحدة القومية، بدون الرضوخ المفرط لرغبات تل أبيب التي تجرها باتجاه مصالحها التوسعية والعدائية في الإقليم. وما كنا لنصل إلى استبدال العدو والتحالف معه، وما كان ليُطرح قانون محاسبة سوريا الذي وصل في النهاية إلى تشريد الشعب وتدمير البلد تحت شعار التغيير. واستراتيجية الاحتواء المزدوج لكل من النظامين العراقي والإيراني، التي تغيرت في ما بعد، بفعل ضغط اللوبي الاسرائيلي والمحافظين الجدد، إلى تدخل مباشر في العراق كان هدفه مخزون النفط، اضافة إلى جعل إسرائيل أكثر أمنا، ومحاولات الليكود تحويل العقوبات والحصار المفروضين على إيران، إلى غزو عسكري يطيح بالنظام ويدمر قدراته القتالية. تؤكد مرة أخرى أن التهديد الفعلي المنبعث من طهران ليس تهديدا لأمريكا، مثلما كان الأمر ذاته مع العراق، وبالتالي فإن الخوف الإسرائيلي يبرر تواصل الضغط، باعتباره عنصرا حاسما وراء قرار الولايات المتحدة بالأمس واليوم. وهم يعلمون ثمن حياد واشنطن عن موقف التأييد لمقاربة إسرائيل المتشددة وتجاهل تسويغاتها، إذ لن تتمكن بعد ذلك من أن تبقى القوة الإقليمية المهيمنة.
كاتب تونسي
ثمة ترابط اجباري بين الاستبداد داخليا والحرب خارجيا. الامبريالية والاستبداد كانا على الدوام وجهين لعملة واحدة. الولايات المتحدة الأمريكية دولة خارجة على القانون وإسرائيل كذلك. ومن الجيد أن تجد من يوقف تصرفاتها الخرقاء.
صحيح هم يحلمون بفترة جديدة تشبه مرحلة المحافظين الجدد( كونداليزا رايس- رامسفيلد – بولتون وجماعتهم) مع أن الشعبوية الرتامبية قدمت لهم الكثير ايضا وان كان على حساب الفلسطينيين بشكل مباشر.
“ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول فرادى أو جماعات في الدفاع عن نفسها إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة. وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي”
المادة 51 من ميثاق مجلس الأمن.
من حق إيران اذن أن ترد بقوّة في حال تعرّضت لهجوم وهو أمر يكفله القانون الدولي. يكفي ما حدث للعراق وأفغانستان وغيرهما من ممارسات أحادية وبلطجة أمريكية. التوازنات الدولية تغيرت.
شكرا على المقال الدقيق والمميز