«بين «الجزيرة» و«أسوشيتد برس»: هل هي رسالة غربية للإعلام الدولي؟ القوة الناعمة: العين قابلت المخرز في غزة!

شهد هذا الشهر نموذجين مقلقين جدا لحرية ومستقبل الإعلام الدولي، هما حظر قناة «الجزيرة» القطرية من التغطية في الأراضي المحتلة، بقرار عسكري إسرائيلي، وليس بقرار محكمة، كما تقتضيه الشرائع والقوانين في الدول الديمقراطية، ومنع السلطات الإسرائيلية وكالة «أسوشيتد برس» من البث ومصادرة معداتها، بحجة مخالفة قانون إعلامي.
لكن شتان بين الموقفين في التعامل الأمريكي خاصة، والغربي عامة، ففي الوقت الذي تراجعت السلطات الإسرائيلية فورا عن حظر وكالة «أسوشيتد برس»، بعد أن أرسلت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن رسائل إلى مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حثت فيها إسرائيل على التراجع عن القرار، وأدانت الوكالة الأمريكية قطع البث المباشر ووصفته بأنه «استخدام تعسفي» لقانون البث الأجنبي الإسرائيلي الجديد، لم نر أي إدانة أمريكية أو غربية واضحة أو مساندة لدعم عمل قناة «الجزيرة» الإعلامي، وحقها المشروع في البث ونقل الوقائع مباشرة، كما تفعل كل المحطات الدولية، دون استثناء، سواء في تغطيتها في إسرائيل أو أي مكان للصراع في كل العالم!
وما يكشف الازدواجية البغيضة في التعامل مع العربي، أن إسرائيل أغلقت مكاتب قناة «الجزيرة، وصادرت معدات البث والاتصالات، ومنعت بث تقارير القناة، كما أخرجت القناة من شركات الكابل والأقمار الصناعية، وحجبت مواقعها على شبكة الإنترنت وغيرها من الإجراءات.
وللإمعان في ازدراء القانون الدولي لحرية الصحافية، الذي تشهره الولايات المتحدة والدول الغربية سيفا مسلطا على الرؤوس ليل نهار، ذهبت إسرائيل الى ما هو أبعد من خلال الحظر على مزودي المضامين وشركات الإنترنت تقديم خدمات للشبكة، وكذلك إلغاء أوراق الاعتماد وبطاقات الصحافة الإسرائيلية الصادرة عن مكتب الصحافة الحكومي.
وهذه هي المرة الأولى في التاريخ، التي يخرج فيها رئيس وزراء دولة بنفسه، وهو بنيامين نتنياهو ويصدر أوامر بوقف قناة «الجزيرة» باللغتين العربية والإنكليزية، وإغلاق مكاتبها في إسرائيل، ومصادرة المعدات التي يستخدمها أفرادها، وتقييد الوصول من إسرائيل إلى موقع الشبكة وحجبه فورا، وكأنها كيان دولي أو طرف في قضية عالمية كبرى!
وهناك في إسرائيل من يكشف أنها «ليست رمانة، بل قلوب مليانة» ودوافع شخصية من نتنياهو، حسب تقديرات صحيفة «هآرتس» العبرية، التي ترى أن الخطوة الإسرائيلية تضر بجهود الوساطة القطرية بين حركة حماس وإسرائيل من أجل التهدئة والتوصل إلى صفقة تبادل.
وليس سرا أن قرار إغلاق مكاتب «الجزيرة» كان خطوة تجميلية، لن تحجب حقيقة أن نتنياهو فشل في التعامل مع قطاع غزة.
وإمعانا في الهزيمة الإعلامية، فقد سمي هذا القانون الإسرائيلي بـ»قانون الجزيرة»، باعتباره صمم بالأساس لمنع بث القناة العربية، ولكنه يشمل جميع وسائل الإعلام الأجنبية.
وفي الوقت الذي يستمر فيه حصار «الجزيرة» – التي يحرص المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون على الظهور عبر شاشاتها، لثقتهم بها وبانتشارها، وتسريب بعض مواقفهم الهامة عبرها – تحطم إسرائيل رقما قياسيا في قتل الصحافيين، لم يسجل في الحرب العالمية، وسط خنوع وموات أخلاقي وسياسي وإنساني غربي، غير مشهود في التاريخ.
فحسب منظمات أممية دولية، فإن صحافيا واحدا على الأقل يقتل يوميا في غزة. وتستهدف القوات الإسرائيلية الصحافيين، رغم أنهم يتمتعون بالحصانة بموجب كل القوانين الدولية، ويسعون إلى إيصال أخبار الحرب في إسرائيل وهجمات الإبادة الجماعية في غزة إلى العالم.
ويفوق عدد الصحافيين، الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية في قطاع غزة خلال شهرين تقريبا، عدد الإعلاميين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية، وحرب فيتنام، والحرب الكورية!
فهل هذا هو النموذج الأمثل، الذي تريده الولايات المتحدة والدول الغربية لمستقبل الإعلام في الشرق الأوسط؟

العصر الذهبي للقوة الناعمة

لم يعد مفهوم القوة الناعمة مجرد ترف لفظي، فقد تقلصت الفوارق الفكرية والنفسية والاعتقادية بين البشر، بسبب انفتاح الشعوب على بعضها البعض، وانتقال العالم من تاريخ الإعلام التقليدي إلى الإعلام الرقمي، فصار قوة موازية للقوة العسكرية.
وهذا ما ترسخه وتؤكده القوة الناعمة العالمية تجاه ما يحدث في غزة، حيث يلتقي الحق في الوجود والمكان مع الاحتلال والعدوان، مؤازرا بأكبر قوة عسكرية ودبلوماسية في العالم.
فقد شاهدنا كيف واجهت الاحتجاجات العارمة مسابقة «يوروفيجين»، وأثرت على الرأي العام الأوروبي بشكل كبير، وكذلك اعتراض وانسحاب فنانين كثر من مهرجان برلين مؤخرا، بسبب حرب غزة، وسبقهم انسحاب 120فنانا من مهرجانات موسيقية في بريطانيا، ورفض عشرات الفنانين المغاربة صمت مهرجان مراكش للسينما تجاه غزة، والمظاهرات، التي أغلقت الشوارع المؤدية الى مهرجان «صاندانس» الأمريكي، الذي ناصر غزة وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.
ووصلت القوة الناعمة في إيطاليا الى اندلاع احتجاجات في مدينة نابولي، بعد أن نأت هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيطالية (راي) بنفسها عن نداء وجهه مغني راب إيطالي من أصل تونسي يدعى غالي «لوقف الإبادة الجماعية» خلال الليلة الختامية لمهرجان سان ريمو الموسيقي الشهير.
وتعكس الانسحابات واعتراضات الفنانين والمثقفين والحقوقيين والناشطين حول العالم مأزق المؤسسات السياسية في الدول الغربية، بين حماية حرية الفن والدعم غير المشروط لكل ما تفعله إسرائيل.
نحن نشهد الآن قوة غير مسبوقة تاريخيا هي القوة الناعمة، التي عززها ووسعها، انفتاح الشعوب على بعضها البعض، وانتقال العالم من تاريخ الإعلام التقليدي إلى الإعلام الرقمي.
ألم يقل ستيف جوبز إن التزاوج بين التكنولوجيا والفنون والإنسانيات هو ما جعل قلب آبل يغني؟ ذلك أنه اعتقد أن التكنولوجيا لا تتقدم ولا تنمو بواسطة علوم الحاسوب وإنما من خلال تواصل تلك العلوم بالعلوم الإنسانية والفنون.
ولم تعد الدبلوماسية الثقافية والفنية شأنا يختص الأجهزة الحكومية، بل صار للمثقفين والنخب والأدباء والفنانين دور مهم في تطوير أثرها وجاذبيتها، وهذا ما يتجلى في ما يحدث من عدوان على غزة.
وإذا كانت الحرب الباردة سابقا تدور حول الاستيلاء على العقول والثقافات البشرية، فإن أمريكا التي أنشأت منذ ذلك الحين المراكز الثقافية وأفلام السينما والمحاضرات والموسيقى ومؤسسات وطرائق لترويج الذوق الأمريكي في الطعام واللباس والغناء والفن، بدأت تخرج القوة الناعمة من بين أصابعها في عصر العولمة والثورة الرقمية، وتسخّير المنصات الرقمية، واليوم الذكاء الاصطناعي، في توطيد هيمنة القوة الناعمة عالميا.
وخلال نظرة إلى تاريخ الفن العالمي، نجد جلياً أن للفن أثره ودوره المهم، وقياساً على الشارع الفلسطيني، فقد قال الفن مقولته، وحذا حذواً مهماً في هذا المضمار على مدار الـ80 عاماً الماضية، في التعبير والاحتجاج على العدوان والاحتلال وأدواته، وأدى دوراً جوهرياً في التوثيق والأرشفة، واستقطب هذا الخطاب التضامن مع قضيته، وساهم في دور كبير في نقل الصدمة عبر الأجيال، والمحافظة على الذاكرة حيةً ومتوهجة.
هكذا صقل الفنانون مواهبهم للاحتجاج على آلة الحرب وتعريتها وتغيير فهم الناس لها من النظرة الترفيهية الشائعة عن الفن.
وبمعنى آخر، فإن القوة الناعمة، هي قوة النموذج الحضاري، كبديل عن «القوة الخشنة» المتمثلة، في امتلاك واستخدام القوة العسكرية، والعنف المفرط، والبطش والهيمنة والأنانية وغرور القوة الصلبة.
تجارب التاريخ المعاصر، تؤكد أن استخدام «القوة الخشنة» كالتدخل العسكري في حل الصراعات، لم يعد مقبولاً من الرأي العام العالمي، ونتائجه كانت كارثية وغير أخلاقية إلى حد كبير. ولا ننس ما قدمته مصر في الخمسينات وحتى منتصف السبعينات، للعالم العربي، وأقاليم أخرى في العالم، قوة ناعمة ملهمة، ممثلة في الرواية والكتاب والمسرح والغناء والرسم والجامعات والسينما والأوبرا والحدائق، تركت مصر ثقافتها تتحدث عنها.
نعم، الآن أمطرت القوة الناعمة، على شعوب الأرض منجزا إبداعيّا جديدا جديرا بالاحترام.

 كاتب من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية