أبى المارشال عبد الفتاح السيسي إلا أن يلتحق بالدول «المتحضرة»، وهذا عبر عن نفسه في سلسلة إجراءات على الحدود المصرية الفلسطينية. كما وصل إلى إحدى ذُراه في اعتقال ناشطات مصريات جئن للاحتجاج على القمع الذي تتعرض له النساء الفلسطينيات والسودانيات أمام مقر هيئة الأمم المتحدة في القاهرة.
غير أن شهية النظام المصري للقمع تجلت في منح الشرعية لكل أشكال العنف؛ إذ قامت شرطة الجامعة الأمريكية في القاهرة باقتحام الحرم الجامعي وضرب الطلاب، بسبب العلاقات التي تقيمها الجامعة مع شركات تتعامل وتدعم إسرائيل والإبادة في غزة.
لكن غليل السيسي لم يرتوِ، فهو حاول استيراد النموذج الأمريكي في القمع، لكن الأمريكان لم يقلدوا نظامه وبقيت الأمور عالقة إلى أن قام الأمريكان بما هو أكثر فجاجة من الشرطة المصرية. فجأة، انقلب الأمريكان إلى وحوش، وفقد عملاؤهم المعتمدون القدرة على التأثير، وهذا ما رأيناه في الجامعة الأمريكية في القاهرة. فانفجر القمع في كل مكان.
لا أدري ما هو موقف أحمد دلال أو لا موقفه، لكن أخشى أن تكون السلطة قد غيرته كما غيرت سواه.
أما في أمريكا فقد انفجرت الأمور بشكل لا سابق له، وهو الشكل الذي انفجر خلال الثورة الطلابية وحرب فيتنام. عشرات الآلاف من طلبة الجامعات المرموقة الذين خرجوا إلى الشوارع وتعرضوا للضرب والسحل والاعتقال حين أقاموا مخيمات في قلب جامعاتهم، مطالبة بقطع العلاقات مع المستثمرين الذين يدعمون الاستبداد في فلسطين.
الظاهرة بالنسبة للنخب الأمريكية تبدو مخيفة؛ ففي مجتمع تسيطر عليه النخب بشكل «ديمقراطي» فإن هذه النخب تصاب بالذعر حين يفلت الطلبة من بين يديها لأنهم يدرسون في تلك الجامعات كي يرثوا النخبة القائمة، وهذا ما يجعل التشبيه بحرب فيتنام شرعياً.
تستطيع أن تذهب إلى «انستغرام» كي ترى رئيسة قسم الفلسفة في جامعة إيموري وهي تسحب إلى السجن، وترى أيضاً بعض زميلاتها وزملائها في جامعات مختلفة يسحلون في الشوارع. لا يستطيع السيسي أن يفتخر بالسحل، فالسحل استنباط عراقي وليس مصرياً، حين رأينا للمرة الأولى حفلات سحل قيادات النظام الملكي في شوارع بغداد.
المشهد الأمريكي لم ينته هنا، فهو مشهد مستمر كَـ «فيلم أمريكي طويل» بحسب زياد الرحباني. وهو أيضاً يدور إما في مستشفى مختلين عقلياً أو في سجن أمريكي. لقد وضع رؤساء أمريكا الحمقى بلادهم بين مقصلة الجنون ومقصلة السجون. وبسبب ذلك، أصيبت الإدارات الأمريكية الجمهورية ومعها إدارة بايدن بهذا الهوس بالعنف والقتل ودعم القتلة بالأسلحة والمال، إلى أن وصل هذا الدعم إلى 14 مليار دولار في الحرب على غزة. وهو رقم يعادل كلفة مشاركة أمريكا مباشرة في الحرب.
إنها حرب العرب الذين لا يحاربون، فيهربون من الميدان تاركينه لبضعة آلاف من الفلسطينيين الشجعان الذين أجبروا العالم على سماع صوتهم وألمهم وهم صامدون لا يتزحزحون.
السيد نتنياهو زاد الطين بلة حين وقف يخطب ويشبح متوجهاً إلى جمهور أمريكي ملّه وملّ حركاته الكاذبة. قام نتنياهو بوصف المظاهرات الطلابية بأنها تشبه المظاهرات النازية قبيل الحرب العالمية الثانية، متلاعباً بالصورة كما يتلاعب بها كمبيوتر، فقلب الأدوار رأساً على عقب، وجعل من الجلاد ضحية، معطياً الأوامر لرئيس أمريكا ورؤساء جامعاتها بالمثابرة على القمع؛ ما قاد إلى إيقاف التدريس الوجاهي في جامعة كولومبيا – نيويورك وتحويله إلى تدريس عن بُعد.
كما نشر الموساد إعلاناً يهدد فيه طلاب العالم جميعاً بأنه «يمكن أن يحدد التعرف على الوجه ما إذا كنت قد شاركت في الاحتجاجات المؤيدة لحماس في الجامعات. وظائفك وشهاداتك ستكون عديمة القيمة. فرص التوظيف الخاصة بك ستكون محدودة».
هذا التغول الكلامي يترافق مع تغول عسكري. ومثلما أثبت التغول العسكري لا جدواه وضرره على صورة المجرم، فإن هذا التغول الكلامي لن يجدي، بل سيعطي مفاعيل عكسية.
الحمقى في الحكومة الإسرائيلية الذين أفرغوا اللاسامية من معناها وحولوها إلى نكتة إلى درجة أن حادث السير الذي أصيب به بن غفير على طريق الرملة صار هو الآخر نكتة أكثر سماجة، حيث جاءت تعليقات الجمهور على هذا الخبر على شكل نكت مركزها اللاسامية. أحدهم اتهم السيارة باللاسامية، وآخر دعا الوزير إلى إدانة إشارة المرور لأنها انضمت إلى اللاسامية.
يا عيب الشوم على «شعب الله المختار» الذين حولوا مقدساتهم إلى أداة سخرية. والويل لهم إذا استمروا على هذه السياسة، فقد يشعلون العالم بثورة تشبه ثورة 1968.
أما جورج واشنطن الواقف سعيداً في حرم جامعته، فقد زينه الطلبة بالعلم الفلسطيني وبالكوفية الفلسطينية ليقولوا إن زمن الاستعمار انتهى، وإن الشعوب تستعيد صوتها من الجنوب حيث يقاتل الفدائيون في غزة.