يبدو لي أن مقالة الباحث المغربي سعيد يقطين (أنيمية السرد العلمي) المنشورة في «القدس العربي» ( 2022/10/26) ساوت بين آلية الكتابة في (السرد العلمي) و(السرد الأدبي) على ما بينهما من تفاوت، وهذا ما حدا بي إلى كتابة هذا المقال للحوار حولها.
معلوم لدى كل متلق أن السرد العلمي يُعنَى بذكر الحقائق العلمية، ويسعى إلى نقلها للمتلقي من خلال الاستعانة بصيغ لغوية إخبارية، ومصطلحات علمية دقيقة، لا تحتمل اللبس، ولا تعدد الدلالات أو التأويلات، وهو يحرص على صياغة متن علمي له دلالة علمية ثابتة لا تتبدل مع تغير الزمن، أو السياق الذي تندرج فيه، أو المتلقي الذي يتواصل معها، وهو يستخدم بغية ذلك لغة يقينية تتقصد الابتعاد عن استخدام الصور الفنية والمجازات والرموز، وتسعى إلى ربط المتلقي بعالمه الواقعي، بغية إدراكه واستيعابه، والهيمنة عليه، فضلا عن أن لغة المتن في السرد العلمي تتشكل بآلية بسيطة تنهض على المطابقة بين الدال والمدلول، لا على انزياح أحدهما عن الآخر؛ بحيث يغدو الدال مرتبطاً فيها بإحكامٍ إلى ذيلِ دال محددٍ، أو مفردةٍ محددةٍ، ويحضُرُ فوراً إذا ذُكِرَ الدال كما تعطي المرآةُ صورةً؛ لأن معنى الدال، أو مفهومَهُ، يثبُتُ في السرد العلمي من خلال وجوده في نسقٍ معينٍ يتعالقُ معه؛ ولا يتغير باستمرارٍ ضمن علاقته مع الدوال الأخرى، كما يحدث في السرد الأدبي الذي يكون فيه المعنى زئبقياً، وينزاحُ عن داله من خلال تشكله في نسق جديد، وتغيرُه باستمرارٍ مع تغير الدوال التي تُكونُ معه نسَقاً لغوياً ما.
إن السرد الأدبي ـ كما هو معلوم ـ يستخدم لغة مجازية تسعى إلى بناء عالم مُتخيل يُغايِر العالم الواقع الموضوعي ويفارقه، ولذلك فالمكان المتخيل فيه لا يتطابق مع المكان الحقيقي، والزمان المُشكل فيه لا يتساوى مع الزمان الفيزيائي؛ ومن هنا لا يمكن للمتلقي القبضُ على هذا العالم؛ أو إدراكُه بالحواس الخمس؛ لأنه مشكل من اللغة والورق والمجاز، وكل ما فيه يستعصي على الحصر والإمساك، ويفارق المألوف والمنطق والواقع، وهو يشكل نظامه من خلال وجوده في النص نفسه لا من خلال مطابقته مع الواقع المرجعي الذي يُوهِم به، أو تقريره لحقائق ووقائع حدثت كما هو الحال في السرد العلمي. أما شخصيات المتن الحكائي في السرد الأدبي فتتخذ أهميتها من كونها عنصراً سردياً من عناصره المتخيلة، ولا يمكن مطابقتُها مع الشخصيات الحقيقية، أو فهمُها في ضوء كونها امتداداً للمؤلف، أو لشخصيات التقاها في الواقع الموضوعي الذي يعيش فيه؛ ولذلك فالسرد الأدبي يكون عالماً بديلا للعالم الواقعي، قد يوازيه، أو ينزاح عنه، لكنه لا يتطابق معه، أو يتماهى به أبداً.
ولا شك في أننا حينَ نزعمُ بأن السرد الأدبي (مُتخيلٌ) فنحن نعني أن كاتبه قام باختلاقه، وإنشائه من العدم، وأن صاحبه قادر على تشكيلِ واقعٍ تخيلي، أو جمالي، يوازي الواقعَ الموضوعي، ويقف على قدميه مستقلا عنه، ولا يحتاج إلى المطابَقة معه، أو التماهي به لكي يُقنِعَ المتلقي بصدقيته، أو قدرته على الإقناع. ومثلُ هذا الأدبِ يُصنَعُ من الورق أو اللغة، كما يقول بارت وتودوروف، ويُكونه الكاتبُ من الوقائع أو العناصر المُتَخيلة التي يحتاج إليها لكي يكتملَ انفصالُهُ عن مرجعه المُتوَهم، وحين يتواصَلُ المتلقي أو الناقدُ معه فينبغي أن يتنبهَ إلى هذا الانفصال، ويعلمَ أن صدقيته تكمنُ في داخله، أو في بنيتهِ الفنيةِ لا في واقعهِ المرجعي، أو محيطه الخارجي، مع أن إدراكَ المتلقي لواقعه الخارجي قد يُفِيد في فهمه، وإنْ كان لا يُفِيد في تقييمه، أو الحُكْم عليه.
وليس في السرد العلمي إبداع في آلية نقل المعلومات للمتلقي، ولا تقنيات تميز كاتباً عن آخر، بل هناك صيغ إخبارية بسيطة ومتشابهة يلجأ إليها الكتاب لنقل معلوماتهم بدقة إلى المتلقي، معتمدين على الإيجاز والتكثيف، ومبتعدين عن المجاز والصور الفنية
وما أكثرَ ما قُرِئ مثلُ هذا الأدبِ في ضوء اتصالِهِ بواقعهِ الموضوعي، وحُكِم عليه في ضوء هذا الاتصال، ونُظِرَ إلى الشخصياتِ التي تتحرك في فضائه على أنها حقيقيةٌ من لحمٍ ودمٍ، وليستْ مصنوعةً من الورق أو اللغة، وتمتِ المطابقةُ بين بنيته المُتخيلةِ والبنية الواقعيةِ التي يُوهِمُ بها، وخلُصَ المتلقي، أو الناقدُ الذي يقرؤه، إلى أن قيمته تكمنُ في ضوء (إحاليته) إلى واقعه الموضوعي لا في ضوء انفصاله عنه، كما أن بنية النص السردي تتخلق من جديد مع تبدل العصور وتجدد الزمن، واختلاف القراء وتبايُن مشاربهم وثقافاتهم، وآلياتهم في القراءة والتأويل، ما يجعله يكتسب نضارة جديدة في كل عصر وزمان ينفتح عليه، ويتعالق معه، وهذا ما يجعل بعض النصوص تنبعث من الرماد حيةً من جديد مع تغير قرائها، وتبدل السياقات المكانية والزمانية التي تحتضنها، كما حدث مع نصوص شكسبير وهوميروس وغيرهما، في حين أن بنية النص العلمي تتلبس هيئة واحدة، وتكتسي بلغة جافة وباردة وحيادية تستعصي على التبدل والتلون، مع اندراجها في سياقات جديدة، وتبقى كما هي دون أن يطرأ عليها أي تغير مع تبدل قرائها، أو تنوع ثقافاتهم، أو اختلاف منظوراتهم في القراءة والتأويل.
وليس في السرد العلمي إبداع في آلية نقل المعلومات للمتلقي، ولا تقنيات تميز كاتباً عن آخر، بل هناك صيغ إخبارية بسيطة ومتشابهة يلجأ إليها الكتاب لنقل معلوماتهم بدقة إلى المتلقي، معتمدين على الإيجاز والتكثيف، ومبتعدين عن المجاز والصور الفنية، في حين أن السرد الأدبي يتكئ على تقنيات متعددة في تشكيل متونه الحكائية، وتختلف التقنيات باختلاف الجنس الأدبي المكتوب، وآلية توظيفها في النص، وليس هناك وصفة محددة يمكن اللجوء إليها لكتابة نص سردي ناجح، والمجال متروك لخبرة الكاتب ووعيه، وفي ظني أن المتنَ الحكائي هو الذي يستدعي آلية تشكيل النص السردي، أما آلية التشكيل فليستْ جاهزة كقالَب لتُصَب فيها وقائعُ المتن بشكل أوتوماتيكي، وأهميةً المتن لا تنبثق من طبيعة الوقائع المبثوثة فيه، بل تنبثق من وجهة النظر التي تعيد نسجه في مبنى حكائي معين، ومن خلال الاستعانة بتقنيات محددة هي الأنسب لبناء هذا المتن وتشكيله بغية تجسيد الرؤية الجمالية التي يحملها صاحبه.
ولا تكمن الأهمية في ما يختاره الكاتب من متنٍ (مُتاحٍ ) له أو لغيره، بل تنبثق من آلية الصياغة التي تضفي عليه بصمةً، خاصة في أثناء التشكيل، وتجعله نتاج رؤية الكاتب المتفردة للمتن نفسه، وآليةُ التشكيل هي التي تُملي على الأديبِ اختيارَ التقنيات المناسبة لصياغة المتن في مبنى حكائي محدد، ولذا لا تحمل التقنياتُ نفسُها حكمَ قيمةٍ مسبقاً قبل استثمارها في بناء سياقٍ فني يستدعيها للقيام ببنائه، ولهذا وقع كثير من النقاد المعروفين في وهم أن بعض التقنياتِ مناسب لتشكيل الخطاب السردي، وبعضها قاصر، وقُيمت كثيرٌ من النصوص السردية في ضوء هذا الوهم، وذهب بعض النقاد إلى أن تقنية (تعدد الأصوات) التي اجترحها باختين، وأمستْ مشاعاً في صناعة السرد، من التقنيات التي تحقق ديمقراطية السرد، وتلائم تعدد المنظورات، وتتآلف مع تعدد رؤية الشخصيات، أو الرواة للمتن الحكائي نفسه، في حين ذهب آخرون إلى أن تقنية (الراوي العليم)؛ تحمل حكمَ قيمةٍ سلبياً، وأن استخدامها في تشكيل المتن الحكائي يرشح بهيمنة الكاتب على آلية السرد، ويشي بسيطرته على شخصياته، ويدل على تدخله في بناء نصه، بغض النظر عن أن كبار الأدباء في العالم استخدموه بنجاح لافت، وفي مقدمتهم دوستويفسكي، وتولستوي، وتشيخوف، وهمنغواي، وغيرهم، وقد وقع هؤلاء جميعاً في أسر ما قاله فلوبير حين وصف هذا الراوي بـ(الراوي الإله) وعد استخدامه في أي نص دليلا على ضعف صاحبه؛ في حين عد نقاد آخرون الراوي المُمَثل (أو المشارِك) دليلا على حسن الاستثمار والتوظيف، وهذا ليس دقيقاً البتة، وقد ناهضه كثيرون من النقاد الكبار، ونبهوا الكتاب إلى عدم الوقوع في شركه، في مقدمتهم تودوروف في كتابه «الشعرية».
ناقد سوري