بين الكارثة والرأسمالية الجديدة

حجم الخط
0

يصعب أن تجد ركنا يخصك في شمولية ثقافة الحداد الاسرائيلية لا ميدانا ولا صالونا ولا لغة. إن هذه الثقافة كانت ترمي من البداية الى انشاء رعايا والى جلب مهاجرين والى استنساخ نسلهم لاحداث قومية متعلقة بالموت وصوره.
إعتدنا أن نقيس حياتنا بمساعدة الـ OECD. ليُفحص ذات مرة بهذه الطريقة عن برنامج ما يُذاع في التلفاز. لا توجد أية دولة من دول المنظمة تنهي بثها بشيء يشبه يوم الغفران أو يوم الكارثة. إن دولة اسرائيل لم تأخذ من الدين اليهودي موضوع الخراب المركزي (نشأ هذا الدين بصفة عبادة حداد قديمة)، بل ورثت منه ايضا الرقابة الاجتماعية التي كانت في المجتمعات المتدينة قبل الحداثة. وهكذا حصلنا على صور حديثة من الرقابة على الوعي لا مفر منها. إن اجهزة الدولة الايديولوجية الجيش والتربية والجامعات ووسائل الاعلام تُجند نفسها وتُجند رعاياها لتكريس القصة الوحيدة التي أخذت تسيطر على حياتنا حتى على أولاد رياض الاطفال.
وهكذا ترتفع مع الربيع من جميع النوافذ شظايا جُمل ذوي حداد مهيأة لتكون في تقارير تلفزيونية يصوغها صحافيون ترعرعوا على هذه الثقافة. في يوم الذكرى لا يُجرون لقاءات صحافية مع آباء ثاكلين يلعنون اليوم الذي مضى فيه إبنهم الى وحدة قتالية. وفي يوم الكارثة لا يُجرون لقاءات صحافية مع باقين على قيد الحياة طلبوا ويطلبون الكف عن اسلوب الاشتغال الجماعي بالفظائع. ولا يُجرون لقاءات صحافية مع من علمتهم الكارثة ‘درسا’ يختلف عن ‘الدرس القومي’.
إن التلفاز وسيلة مركزية في هذه الشمولية. وقد وُلد مع الاحتلال. وقد رعى في البدء حنينا الى ‘ماضينا’ الساذج بمساعدة الطلائعية قبل الرسمية. أما التلفاز التجاري في مقابل ذلك فولد مع ‘الفصل’ في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وتبدو الأعراض عارضة وربما كانت كذلك في بدايتها. وعلى كل حال تمت تنشئة الاسرائيلي في عصر التلفاز التجاري ليكون ضحية وشرها الى الملذات وهاتان صفتان دورهما الرئيس في الحساب التاريخي أن تُبيحا وتُخفيا الفصل العنصري واستعمار الفلسطينيين. إن ثقافة الذاكرة هذه حتى إن التاسع من آب (العبري) ضُخم ليصبح يوم حداد في سنوات ‘الليبرالية الجديدة’ هذه تجعل الجمهور كله ‘اولئك الضحايا’: الشهداء والقتلى والناجين، وهي تُمكنهم جميعا من التلذذ فهم مجموع متذكر وسلبي وقاسٍ. إن وعي الضحية هذا نما بدل الروح العامة الصهيونية ليكون غراءً ورابطا بدل ‘التحقيق’ المعذِّب وبدل الايمان بالعمل والمسؤولية.
ومع كل ذلك بقيت السيطرة على الوعي في اسرائيل في يد الدولة. إن الذاكرة المشتركة تنشيء كتبة يُشركوننا جميعا بعد ذلك في ‘ماضينا’. فلم يعد الأمر أمر ‘هم’ و’نحن’ كما افترضت ثقافة الذكرى في بدايتها بشيء من التباعد كانت له مزايا اخلاقية تميزه عن الشعار الحالي ‘كلنا كنا هناك’. وتنتصر هنا ايضا ثقافة ‘الأنا’: فأنا ضحية حتى حينما أتفاخر بتغطية أنفاق غزة، وحتى حينما يثير بي الطبق المحاصر شعور من يقوم في برج حراسة. إن الحداد يصبح سخافة تحت رقابة المجتمع السياسي ومذيعيه. وينجح ذلك لأنه لا توجد سيطرة على المواطنين أنجع من رعاية حدادهم. وكأن هذا البعد الواحد لا يكفي، فقد ظهر على مسرح التاريخ منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي الخطاب الغربي الذي يتناول الكارثة. إن بواعثه مختلفة لكنه يدلل ايضا ذكاءنا ‘المتقدم’: فثم تمويل ورحلات لمنتجي ‘كارثتنا’. وثمة باقات زهور ضخمة من قبل المؤسسات التي تقوم بالرحلات إلى النصب التذكاري في وارسو، وهذه الرحلات تشهد على التأليف بين اللذة والحداد. ويتجول موزعو التحف التذكارية في كركوف في الميدان العام بالقرب من الكاتدرائية ينادون: ‘اوشفيتس بركناو بـ 80 زلوتي فقط’.

هآرتس 28/4/2014

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية