منذ انطلاق الثورة السورية، وعلى عتبات كل مفصل من مفاصلها، ما فتئ جمهور المعارضة ينقسم إلى فريقين متباينين حد التناقض، غير متفقين على أن الاختلاف في وجهات النظر لا يفسد للود قضية، بل كان كلُّ اختلاف يُنتج خلافًا يتجاوز مبدأ النقد البنّاء إلى ما يصل حد التخوين، ولا يتوقف دون التعريض والسباب، مما يظهر جمهور المعارضة، أو أغلبه بمظهر المراهق السياسي.
عقلية «الشرطة العسكرية»
لست هنا في وارد الدفاع عن الأخطاء التي وقع فيها بعضنا، ولكن أحاول تسليط الضوء على الفهم الخاطئ لمفردة «الحرية»، وما أنتجه فهمنا المنقوص لها من مفرزات لا تتوافق مع ما خرجنا لأجله، مع التأكيد على أن الحرية مفهوم واسع لا يحدّه ويوقفه سوى الضرر الذي قد يتمخض عنه تجاه الثورة وقيمها أولا، وتجاه الأفراد ثانيًا، ومن النافل القول بأن للحرية مفهومها الواسع العام، الذي لا يقتصر على نظرتنا كمعارضة سورية لها، ولما عانيناه، ونعانيه بسبب غيابها عن حياتنا بكل مناحيها.
وعليه فإن من واجب الخارجين لأجل الحرية أن يتخلّقوا بها أسلوبًا ومنهجًا للتعاطي مع كل مناحي الحياة، والابتعاد عن عقلية «الشرطة العسكرية» وهراوتها التي كانت سائدة، إذ ليس كلُّ مختلفٍ مخالفًا يجب إعادته إلى الحضيرة.
ومن النافل أيضًا القول أن الثورة كانت وما تزال بحاجة حشد التأييد، والحفاظ على من انتهجها، فضلا عن كسب كل مؤيد لها، ولو كان ممن التزم الصمت خوفا بسبب ظرفه الشخصي الخاص، فمنذ بدء الخليقة والناس متفاوتون في قدرتهم على التحمل، ومقدرتهم على التضحية سواء بمكتسباتهم أو بحياتهم، وما مقولة:
«المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير» سوى دليل واضح على تفاوت القدرة مع احتفاظ كلا النمطين بالخيرية الكامنة فيه.
يحمل بعض المعارضين الذين يرون أنفسهم حراسًا على الثورة هراواتهم ويلاحقون كل من يظنون فيه ظن السوء، ويقودون حملات التخوين ضد الفنانين والكتّاب والمخرجين الذين ظلوا محافظين على هدوئهم وتعاملهم الحذر مع جمهورهم، مطالبين إياهم بمواقف واضحة لا رمادية فيها، مما يحملهم ما قد لا يطيقونه من تبعات، مع أن مجرد عدم تبنيهم مواقف المنظومة الإجرامية هو في حد ذاته موقف واضح لا لبس فيه لرفضهم إياه.
أكاد أجزم أن ذلك لا يخفى على متابع فطن، والعقلانية توجب دعمهم وإظهار حسن النية تجاههم، ومحاولة تخليصهم من ثقالة الرقيب الداخلي الذي يتملكهم نتيجة هذه الحملات التي من شأنها تنفيرهم من جمهور المعارضة، حتى أن بعض المعارضين الواضحين باتوا يخشون الإدلاء بدلائهم في القضايا والأحداث مخافة حملات النقد التي تفتقد لأدنى درجات الموضوعية، بل تنحو نحو التشهير المشين مما يؤدي إلى تحجيم الأصوات المختلفة، ودعم صوت واحد لا يخلو عادة من الصراخ المجاني.
هدف الحرية
الثورة ليست إسلامية، كما أنها ليست علمانية، ولا يجوز أن تكون منتمية لتيار واحد، ولا إلى لون مفرد، والمعارضون يجب أن يجمع بينهم هدف واحد هو الحرية، ولا مناص من الاختلافات التي من شأنها طرح آراء متفاوتة ومتغايرة حول الحدث الواحد، فذلك من أسس الحرية التي خرجنا في سبيلها، ولن نكون مستحقين لها إن لم نستطع التغلب على حالة الإقصاء التي نمارسها بامتياز.
ليس كل من ظهر على تلفزيون ما خائنًا، وليس كل من شارك في حدث ما خائنًا، وليس كل من اختار البقاء في سوريا خائنًا، طالما لم يمارس تشبيحًا ظاهرًا لا خلاف عليه.
لقد خسر جمهور الثورة الكثير من الداعمين خلال أعوام الثورة الثمانية، نتيجة النظرة المتصلبة، ولم تخلُ ضفة الثورة من المتسلقين الذين راحوا يبيضون صفحاتهم من خلال الطعن بالآخر، أيا كان هذا الآخر، ونتيجة أيضا للخطابات والشعارات المتحجرة التي ربما كانت تناسب مرحلة البدايات، ولكنها باتت عبئًا وحملًا ثقيلًا يجب رميه والتخلص من تأثيره السلبي الذي لم نجنِ منه سوى الخسارات، وبات لزامًا علينا تغيير سلوكنا الذي نفّر الكثيرين ممن كانوا منحازين ولو بشكل مضمر نحو الثورة، فلطالما كان الوصول المتأخر أفضل من عدمه.
وهذا لا يتعارض مع واجبنا في نقد أي سلوك لأي شخص أو جهة، ولكن مع احترام قواعد النقد وانتهاج الأمانة والموضوعية أثـناء ممـارسـتنا له.
أنْزِلْ أيها المعارض هراوتك، وابتعد عن توزيع صكوك الوطنية، واترك مساحة من الود -ولو على مضض- تمنح الأمان لمن رأى أو يرى في الحراك الثوري مشروعية عندما يستطيع الالتحاق به.
كاتب سوري