كان من الغريب أن يندلع حريق بالقرب من جسر أوغستوس في مدينة دريسدن الألمانية في الساعة الرابعة من صباح يوم الخامس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2019. لكن بعد ست وخمسين دقيقة اكتشف حراس متحف «الخزنة الخضراء» في المدينة تعرض المتحف للسرقة، فاتصلوا بالشرطة التي وصلت بعد خمس دقائق، لكن بعد فوات الأوان، حيث استطاع اللصوص سرقة ثلاث مجموعات من المجوهرات تكونت كل منها من سبع وثلاثين قطعة، وقدرت القيمة الكلية للمسروقات بمليار دولار، إذ أنها قطع لا مثيل لها، وتعتبر جزءاً مهماً من تاريخ ألمانيا وأوروبا.
واكتشفت الأجهزة الأمنية الألمانية أن ذلك الحريق كان متعمدا لقطع الكهرباء عن المتحف، لكن كاميرات المراقبة كانت تعمل على مصدر آخر للكهرباء، فحصلت الأجهزة الأمنية على تسجيل كامل لكيفية حدوث عملية السرقة. وإذا كانت المعلومات التي تناقلتها وسائل الإعلام صحيحة، فإن عملية السرقة كانت بسيطة جدا وسريعة، ما جعلها بالغة الاختلاف عن عمليات السرقة التي نشاهدها في أفلام هوليوود. وقد تم القبض على الفاعلين، الذين كانوا لبنانيين، واكتشف أن أحدهم كان مطلق السراح في انتظار قرار الاستئناف لإدانته في عملية سرقة شهيرة سابقة. لكن المسروقات اختفت، ويخشى المختصون أن اللصوص قد فككوا المجوهرات ما يقضي على قيمتها التاريخية. وتعتبر هذه السرقة الأكبر في التاريخ، كما تمثل ضربة قاسية للتاريخ الألماني والأوروبي.
لم تحصل السرقة في مدينة دريسدن الألمانية على اهتمام كبير من قبل أجهزة الإعلام العالمي، على عكس ثاني أكبر سرقة في التاريخ التي وقعت في مدينة بوسطن الأمريكية يوم الثامن عشر من آذار/ مارس عام 1990 حيث قرع اثنان من الشرطة جرس الباب الجانبي لمتحف إيزابيلا ستيوارت غاردنر في الساعة الواحدة وعشرين دقيقة صباحا. وسمح لهما أحد حارسي المتحف تلك الليلة، على الرغم من كون الأوامر تحظر ذلك، ليفاجأ بأنهما في الحقيقة لم يكونا سوى اثنين من اللصوص اللذين استطاعا السيطرة على الحارسين وسرقة إحدى عشرة لوحة شهيرة وقطعتين أثريتين. ولم يحاول اللصان فك الأطر لتلك اللوحات لإخراجها كاملة، بل قاما بقص اللوحات بسكين ما أضر بها. واستغرقت العملية واحدة وثمانين دقيقة، وتمت ببرود مريب ليختفي اللصان إلى الأبد. واكتشفت السرقة من قبل حراس النوبة الصباحية الذين اتصلوا بالشرطة، لكن بعد فوات الأوان. واكتشفت الشرطة أن حارسي النوبة الليلية مقيدين في سرداب المتحف ليبدأ تحقيق ما يزال قائما، إذ لم يعثر على الفاعلين والمسروقات، على الرغم من قيام المتحف بعرض مكافأة لمن يزود الجهات الأمنية بمعلومات تؤدي إلى إعادة المسروقات. وكانت الجائزة تبلغ مليون دولار، إلا أنها أخذت تزداد قيمة تدريجيا حتى بلغت عشرة ملايين دولار ومرشحة للزيادة في المستقبل. وكانت هذه السرقة صدمة في عالم المتاحف والصحافة العالمية، إذ تقدر قيمة المسروقات أكثر من ستمئة مليون دولار، ولم يكن قد تم التأمين عليها. والغريب في الأمر أن أنظمة الأمن في المتحف كانت متخلفة نسبيا، على الرغم من وجود معروضات ثمينة جدا وذات قيمة تاريخية كبيرة، ومما يزيد الأمر غرابة أن الأجهزة الأمنية كانت قد اكتشفت عام 1882 وجود خطة لسرقة المتحف نفسه وأبلغت إدارته بذلك، ما زاد من الاحتياطات الأمنية، دون أن تصل إلى المستوى المطلوب. وكان من الواضح أن اللصين في هذه السرقة كانا على علم بأغلب الأنظمة الأمنية للمتحف وهندسته الداخلية، حيث قادا الحارسين المقيدين إلى السرداب دون سؤالهما حول مكانه. وأثار اختيار اللصين للمسروقات حيرة الخبراء لوجود لوحات أثمن من تلك التي سرقاها.
عرضت الجهات الأمنية الأمريكية مختلف الإغراءات للصوص، ومنها التخفيف من فترة السجن وحتى عدم الحكم بالسجن، لكن دون جدوى، فجميع إجراءات التحقيق لم تبدِ نفعا، ولم تكن المعلومات التي زودها بها الجمهور ذات فائدة. ومع ذلك كان هناك بعض الشكوك التي تركزت على بعض المجرمين المعروفين، وكان منهم أحد أفراد المافيا الإيطالية في بوسطن، الذي وجد مقتولا في صندوق سيارته عام 1991. أما الآخر، فلم يكن سوى زعيم العصابة الإيرلندية الشهير وايتي بلجر، الذي مثل دوره الممثل الأمريكي جوني ديب في فيلم «كتلة سوداء» (2015). وقد نفى وايتي بلجر أي علاقة له بالسرقة وادعى أنه يقوم بتحقيقاته الخاصة لأن المتحف كان ضمن منطقته، ما يعطيه الحق في الحصول على عمولة من اللصوص! وادعى البعض أن المسروقات كانت في حوزة وايتي بلجر ثم أرسلها إلى منظمة «الجيش الجمهوري الإيرلندي» في إيرلندا. لكن إذا كان لدى وايتي بلجر أي معلومات عن السرقة، فإنه لم يحاول استعمالها للتوصل إلى اتفاق مع القضاء الأمريكي لتخفيف الحكم عليه عندما حكم عليه بالسجن المؤبد، بعد أن قبض عليه عام 2011. وهذا يعني أنه كان يقول الحقيقة حول عدم معرفته بالأمر. وقُتِلَ وايتي بلجر في السجن عام 2011 على يد أحد السجناء. ومن الغريب في الأمر أن إدارة المتحف استلمت رسالة من مجهول عام 1994 يعرض إعادة المسروقات مقابل عفو ومبلغ مالي، وذكر تفاصيل لم يعرفها سوى القائمين على المتحف والأجهزة الأمنية، إلا أن مرسل الرسالة اختفى بعد ذلك. ومن الجوانب الطريفة في هذه السرقة ادعاء أحد المجرمين بأنه خطط عملية السرقة إلا انه لم يقم بالسرقة، ولذلك طالب بعمولة مقدارها 15% من اللصين المجهولين. ومما يزعج الخبراء والقائمين على المتحف أن هذه اللوحات يجب ان تحفظ في غرفة ذات حرارة ورطوبة معينتين لحمايتها من التلف، ومن غير الممكن معرفة ظروف حفظها من قبل اللصوص الذين ربما لم يجدوا بيع هذه اللوحات سهلا نظرا لشهرتها. وفي الوقت الحالي ما تزال الأطر التي حوت اللوحات معلقة على حيطان المتحف، لكنها طبعا فارغة، تذكيرا بتلك السرقة الشهيرة، إذ ما تزال المسروقات الثمينة مفقودة.
ليس ضعف أنظمة الحماية الأمنية في المتاحف المعيار الوحيد للصوص، حيث هناك معايير أخرى، وأهمها الاهتمام العالمي بأنواع الفن، أو الآثار الذي يتغير باستمرار، ففي ثمانينيات القرن العشرين ازداد الاهتمام العالمي بالرسم الانطباعي، ولذلك ازدادت سرقات لوحات ذلك النوع من الرسم بشكل كبير في تلك الفترة، وأحيانا هناك معايير مثيرة للاستغراب.
كانت السرقتان في مدينة دريسدن الألمانية ومدينة بوسطن الأمريكية الأكثر شهرة بين سرقات غير قليلة أثارت ضجة في الإعلام، مثل سرقة لوحة «الصرخة» The Scream الشهيرة من متحف «منش» النرويجي من قبل لصوص مسلحين عام 2004 وعثر عليها بعد سنتين وسرقة الموناليزا عام 1911. ليست أغلب سرقات القطع الفنية من متاحف، إذ أنها تتمتع بشكل عام بأنظمة أمنية جيدة، لاسيما ان الكثير من المعروضات قرض من أصحابها الذين لن يقرضونها إلا اذا كانت أمانتها مضمونة بشكل معقول، ولذلك فإن أكثر من نصف السرقات هدفها المنازل الخاصة الحاوية على مجموعات فنية قيمة، حيث تكون أنظمة الأمن ضعيفة، وكذلك الكنائس. وكلما خف وزن القطعة الفنية كانت سرقتها أسهل، وكلما قلت أهميتها وشهرتها، كان بيعها أسهل، فالمشتري سيعرف فورا أنها مسروقة، ما يحرمه من فرصة عرضها على الجمهور وأصدقائه للتبجح بها. لكن الأجهزة الأمنية والإعلام تكتشف أحيانا أن أثرياء ومتاحف يشترون أحيانا مسروقات فنية دون خجل، وفي هذه الحالة تباع القطع الفنية المسروقة بأثمان أرخص من أثمانها الحقيقية بكثير.
يقوم اللصوص أحيانا بالاتصال بأصحاب القطع المسروقة عارضين عليهم أعادتها مقابل مبلغ من المال، ما يعرضهم لخطر القبض عليهم عند قيامهم بالإعادة. وعلى عكس المجرمين في الأفلام السينمائية، فإن لصوص القطع الفنية الحقيقيين ليسوا خبراء ومن ذوي الاختصاصات النادرة، بل إنهم اللصوص نفسهم الذين يسرقون السيارات في الشارع والمنازل العادية، كما قد يكون اللص سائحا عاديا وجد فرصة لسرقة قطعة فنية، أو عالما يشرف على متحف أو موقع أثري، أو دبلوماسيا يحمل شهادات أكاديمية عليا. ومما يزيد الطين بلة أن بعض الخبراء ينتقدون الجهات الأمنية لعدم إبداء الجدية اللازمة لحل سرقات القطع الفنية والآثار، فلا تتجاوز نسبة القطع الفنية التي يعثر عليها وتعاد إلى أصحابها العشرة في المئة من العدد الكلي من المسروقات ولا يذهب الكثيرون إلى السجن. وخير دليل على ذلك قلة عدد أفراد الأجهزة الأمنية العاملين في هذا المجال البالغ الأهمية، حيث أنه يتجاوز كونه جريمة سرقة، لأن هذه المسروقات لا تمثل تاريخ شعوب ودول حسب، بل الحضارة العالمية، لكن الكثيرين لا يدركون ذلك. ويظن الكثيرون أن سرقة الأعمال الفنية والأثرية نادرة نسبيا، وهذا غير صحيح، إذ تقدر منظمة الإنتربول أن عدد القطع التي سرقت عام 1998 فقط بحوالي ستين ألف قطعة. ويقدر الخبراء قيمة القطع التي تسرق سنويا ما بين أربعة وستة مليارات دولار.
نرى في بعض الأفلام السينمائية أحد الأثرياء يكلف مجموعة من اللصوص المحترفين بسرقة لوحات معينة، بل إن فيلم «حكاية توماس كراون» The Thomas Crown Afair نرى الممثل البريطاني بيرس بروسنان Pierce Brosnan يمثل دور ثري كبير يكلف بسرقة لوحة شهيرة للرسام الفرنسي «مونيه». لكن كل هذا محض خيال، إذ لم تكتشف حالة واحدة من هذا النوع حتى الآن، لكن جريمة سرقة القطع الفنية والأثرية لم يكن أبدا موضوعا مغريا في السينما العالمية، حيث يقل عدد الأفلام السينمائية التي تتناول هذا النوع من الجرائم الخطيرة.
ليس ضعف أنظمة الحماية الأمنية في المتاحف المعيار الوحيد للصوص، حيث هناك معايير أخرى، وأهمها الاهتمام العالمي بأنواع الفن، أو الآثار الذي يتغير باستمرار، ففي ثمانينيات القرن العشرين ازداد الاهتمام العالمي بالرسم الانطباعي، ولذلك ازدادت سرقات لوحات ذلك النوع من الرسم بشكل كبير في تلك الفترة، وأحيانا هناك معايير مثيرة للاستغراب. وكمثال مثير للدهشة على ذلك السطو المسلح الشهير على متحف مارموتان في العاصمة الفرنسية يوم الأحد الموافق السابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1985، فبعد الساعة العاشرة صباحا، أي بعد فتح أبواب المتحف للزوار، دخل المتحف خمسة رجال مسلحين بأسلحة رشاشة وسيطر اثنان منهم فورا على الحرس وأمرا زوار المتحف بالانبطاح على الأرض بحيث تكون وجوههم نحو الأسفل، أما بقية اللصوص، فأسرعوا نحو لوحات محددة وقصوها من أطرها بسرعة وعادوا إلى سيارتهم التي كانت واقفة بشكل مزدوج أمام المتحف.
ولم تستغرق عملية السلب أكثر من عشر دقائق، لكنها كانت كافية لسرقة تسع لوحات شهيرة من الفن الانطباعي، وكان منها لوحة «انطباع لشمس تشرق» لمونيه، التي كان اسمها مصدر تسمية «الرسم الانطباعي». وسرعان ما اكتشف الإعلام العالمي أن هذه اللوحات وبقية معروضات المتحف غير مؤمنة، لظن إدارة المتحف أن أقساط التأمين باهظة واستحالة سرقة لوحات شهيرة، ما يدل على أن إدارات المتاحف الكبيرة لا تملك الإدراك اللازم في هذه المجال. وجن جنون السلطات الفرنسية التي ذكرت أن هدف اللصوص كان خدمة أحد الأثرياء الكبار، الذي أراد الحصول على هذه اللوحات لنفسه أو لابتزاز المتحف، أو لابتزاز فرنسا نفسها. لكن الواقع أثبت بطلان الظنون الفرنسية، فمع مرور الوقت وصلت معلومة إلى السلطات الفرنسية مفادها أن جهة ما عرضت على المافيا اليابانية هذه اللوحات، إلا أن الجانب الياباني رفض أن تكون له أي علاقة بالموضوع، لكن لماذا المافيا اليابانية؟ اكتشفت السلطات الفرنسية أن مواطنا يابانيا كان في السجن لسرقته لوحات فنية، قد اتفق مع بعض السجناء من ذوي الخبرة في السرقات الفنية للقيام بهذه السرقة عند خروجهم من السجن. واقتحمت الشرطة الفرنسية منزل هذا الياباني لتكتشف وجود لوحتين سرقتا في عملية أخرى عام 1984. وفي نهاية المطاف تم العثور على اللوحات في جزيرة كورسيكا، حيث لم يستطع اللصوص بيعها لأحد بسبب شهرتها.
يعتبر الرسام الإسباني بابلو بيكاسو أكثر الفنانين العالميين الذين سرقت لوحاتهم حيث تمت سرقة ألف ومئة وسبع وأربعين لوحة له حتى كانون الثاني / يناير عام 2012. أما أكثر لوحة تعرضت للسرقة، فهي لوحة «ياكوب دي خي الثالث» للرسام الهولندي رمبرانت، حيث تمت سرقتها وإعادتها أربع مرات منذ عام 1966. وهنالك لوحة «عشق الحمل الصوفي» للأخوين البلجيكيين الفلمش هربرت ويان فان أيك التي تعرضت للسرقة سبع مرات خلال ستة قرون.
باحث ومؤرخ من العراق