لن يستطيع أحد منع نتائج ما جرى وسوف يجري في الولايات المتحدة، من خلال مسار انتخاباتها، وما سيبقى منها فاعلاً في المرحلة المقبلة علينا وعلى منطقتنا وقضايانا. ونعرض هنا لتأثير ذلك على ما يتعلّق بإيران: من حيث الاتفاق النووي وسياقاته، وتفاعلها السلبي في محيطها، من خلال تصديرها لثورتها بمضامينها الطائفية والعنيفة، ومن ثم دفعها الآخرين باتجاه إسرائيل، خصوصاً متابعتها قيادة الثورة المضادة لوأد الربيع العربي بآفاقه وآماله المصيرية.
استطاع دونالد ترامب أن يضعف الولايات المتحدة، ليس في إمبرياليتها وطغيانها الدوليين، بل في ديمقراطيتها وقيمها الدستورية، وكذلك في فعالية دورها في قيادة الغرب، أمام الشمولية الصينية باقتصادها الزاحف على بطون أبنائها، وأمام مسرحية الديمقراطية الروسية، التي تنهل من مَعين التاريخ القيصري، وغيرها.
لا يقوم ترامب بأيِّ فعل لا تسمح له به قواعد عمل المجتمع الرأسمالي، ولكنه يذهب بها إلى حيث لم يذهب أحد قبله أبداً. هو يلعب لعبة سيادة القانون حتى شكلانيّتها المطلقة؛ ويراوغ حتى لا يسلّم بفوز خصمه الانتخابي، حتى يجبره ويجبر أمريكا على اللعب حسب الطريقة التي جاء بها من حقل تجارة العقارات.. إنه يكسر حدود الدستور الأمريكي وقواعد المنافسة حوله، إلى حيث تقوده طموحاته وارتجالاته، بحيث يجعل من قواعد عمل النظام الدولي في الحرب الباردة أفقاً مرغوباً، بعد أن تهلهل حتى بَلِيَ ومضى زمنه. هذا يجعل هنري كيسنجر، ومعه مترنيخ، يضحكان، أحدهما على شفا القبر والثاني في أعماقه.
لن تكون الطغمة الإيرانية الحاكمة محاصرة أكثر مما هي الآن أبداً، ولن تضطر إلى التراجع عن سياستها بخصوص الاتفاق النووي. إن ذلك الاتفاق المدعوم من قبل أوروبا وروسيا والأمم المتحدة، سوف يصبح أكثر هشاشة وحضوراً، بترجمته الفارسية إلى منطق المرشد الأعلى وصحبه.. ولن تستطيع إدارة بايدن أن تضغط باتّجاه تحجيم سياسة تطوير واستخدام الصواريخ الباليستية، ولا التدخل المتصاعد في عمق نسيج المنطقة، انطلاقاً من العراق ولبنان واليمن وسوريا- وغيرها بعد ذلك – ولا حتى باتجاه تفعيل وتطوير المراقبة على الأنشطة النووية الإيرانية.. وأوروبا ستعود إلى صراخها، لتحاول لجم انفلات الأزمة أو المأزق.
على الأقل، ستكون عناصر المنطقة – بإسرائيلها وعربها- أمام خيارين لم يكن الاختيار بينهما على ذلك القرب والضرورة: رفع إيقاع الرقص أكثر من حافة الحرب، أو التراجع خطوة أو خطوتين إلى الوراء. وليس هنالك من مؤشّر على أن الطغمة الإيرانية، الدينية الطائفية الشمولية المتطرفة، يمكن أن تتراجع ولا تجد منفذاً إلى الفوضى، هو الأقرب إلى مصالحها قبل أيديولوجيتها.
وحين ينظر المرء قليلاً خلف السور الإيراني، يرى انتخابات رئاسية مهمة بعد خمسة أشهر من الاستلام والتسليم في البيت الأبيض، في يونيو. هنالك لن تكون نتيجة ما فعله وسيفعله ترامب إلّا تدعيم الاتجاهات الأكثر تشدداً، التي ستكون مواجهتها لخصومها في الداخل أكثر سهولة وأفضل تسويقاً. وإذا كانت شراسة الحرس الثوري، وتحكمه بقيادة خامنئي بجوانب تزداد اتسّاعاً وحرية، في السياسة والاجتماع والاقتصاد في إيران، قد استطاعت تحويل خصومها من الإصلاح الذي يقوده أمثال خاتمي وموسوي، إلى الاعتدال الذي يقوده رفسنجاني وروحاني؛ فربما ستستطيع – بمساعدة ترامب وتحديثاته للسياسة الأمريكية – أن تعزل حتى الجناح المعتدل، وتنجح بتحويل إيران إلى جبل «ألموت» معاصر.
استطاع دونالد ترامب أن يضعف الولايات المتحدة، ليس في إمبرياليتها وطغيانها الدوليين، بل في ديمقراطيتها وقيمها الدستورية
في الجانب الآخر، يُلاحظ مؤخراً غلبة اتجاه مريح للحوثيين في اليمن، يطالب بوقف تسليح من يقصفهم، والاعتراف باليمن الذي رسموا معالمه في الأعوام الماضية، كأمر واقعٍ لا بدّ من مراعاته. وبغضّ النظر عن الموقف من التدخّل الخارجي، ومدى صحته وصحة ما يريده لليمن أو يفعله به، أو حتى مدى مفارقته لأحكام القانون الدولي والقانون الإنساني؛ فإن ذلك سوف يصبّ في النتيجة في طاحونة الطغمة الإيرانية وسياساتها، ليساعدها على تحقيق أهدافها أيضاً.
ومن نافل القول، إن مفاجآت ترامب في ما يخصّ القوات الأمريكية في الخارج، وقيامه في الوقت الضائع الذي لم يكن معتاداً أن يقوم به رئيس أمريكي بما يعقّد حياة الإدارة المقبلة بعده، ويجعلها تخسر زمناً، لا يضرّ بها وحدها، بل بالولايات المتحدة عموماً من خلالها.. مثل أوامره بسحب قواته – كلها أو بعضها- من العراق وإضعاف الكاظمي لمصلحة الجناح الإيراني في الحشد الشعبي، واضح وجليّ.. يُضاف إليه مباشرة ما سوف يثيره من رياحٍ مفاجئة مثل ذلك في سوريا، التي تنتظر فيها روسيا وكلّ جماعة أستانة تلك الهدايا المجانية.
في مساحة ثالثة أو رابعة، لطالما كانت الأولى قديماً، فإن لسياسة ترامب تأثيراتها حتى لو تنحّى جانباً بعد قليل، من خلال ارتباك الاستراتيجية الأمريكية، واستمرار عجز أو مراوحة القدرة الأوروبية، وتقدّم العدوانية الإيرانية المفترض؛ سوف تضمن تطوير الأمور لغير مصلحة الفلسطينيين، أو على حسابهم، وربما كانت في علم الحساب خسارة مهمة ومحدقة، ولو كان في علم الرياضيات أو الرياضيات الحديثة شيء مختلف، كما يريد البعض أن يقولوا، ولا يفصحون كثيراً، لأن الإمساك بيد الخصم، حتى لو بدا الأمر تخلّصاً من خصمٍ أشدّ، وأكثر عتوّاً وراهنية، ليس قراراً سهلاً، ولا يمكن اتّخاذه بارتجال أو استعجال أو من دون عقابيل تاريخية.. وربّما كانت للأمر حلولٌ أخرى يمكن إبداعها وتفعيلها، لو لم يكن هنالك ترامب ونتنياهو ومصالحهما الانتخابية.
من حيث ظواهر الأمور وعواملها الميكانيكية، كان طبيعياً أن يكون لأبناء المنطقة من جماعتنا موقف مؤيدّ لترامب وحريص علي رضاه. فهو مناط استمرار قوة عظمى رئيسة، تقف من خلاله بحزم أمام المطامع والسياسات الإيرانية، التي تقوم بالتخريب في كلّ مكان حولها. وهو يضمن بدوره وقوف القوة الأعظم الثانية في المنطقة موقفاً على شفا الحرب مع إيران، يرى فيه بعض العرب ضماناً وأماناً في بؤسهم، خصوصاً من يخشون كونهم» في بوز المدفع».
حتى العراقيون والسوريون واليمنيون واللبنانيون، الذين يعانون من الميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران والحرس الثوري، ومن حزب الله والحوثيين؛ فقد اندفع الكثيرون منهم للتعلّق بحملة ترامب وترقّب نتائجها الرابحة، بسبب إحساسهم بالعجز عن تغيير معادلاتهم بأيديهم، أمام قوةٍ عاتية وعاصفة تجعل من المذهب أيديولوجيا هي الأكثر قدرة على توليد العواصف والأعاصير، بالأفعال المباشرة أو بردود الأفعال المتولّدة، لدى المتطرفين لدى أهل المذهب، أو المتطرّفين في المذهب المقابل له. ذلك جانب وحسب من جوانب عاصفة أثارها ترامب، لا يعطي لجو بايدن ولا لميوله المريحة للأوروبيين والروس- والإيرانيين- أية أفضلية جوهرية. ولا ننسى أنه كان» نائب» أوباما لثماني سنوات، الذي جرّبنا التعلّق بوعيده لطاغيتنا، حين رسم خطه الأحمر ثمّ قفز من فوقه.. وذلك أحرى بأن يزيدنا اقتناعاً بتحديث رؤانا إلى منطقة أقرب من العالمية أو الكونية، ونتأنّى في أحكامنا، وننطلق من أن ما سيكون مفيداً لشعب من الشعوب، هو المفيد للإنسانية بغض النظر عن التفاصيل والتعقيدات.
والشعب موضوعنا هنا هو الشعب الأمريكي الفاعل المهم بقيمه وقوته وريادته، الذي – إذ تنقلب حياته على أعقابها- سوف يجعل حياة البشر أجمعين جحيماً.. والوباء الذي يهاجم البشرية الآن واستراتيجية ترامب حياله، مثالُنا الأقرب، الأكثر حساسية وتأثيراً.
كاتب سوري