بين تيهين: هجرة أم تهجير؟

حجم الخط
0

تتابع عدة مراكز أبحاث ووسائل إعلام إسرائيلية مسألة هجرة بعض العائلات اليهودية من إسرائيل وقطع صلاتها بها نهائيا؛ وتختلف معطيات التقارير المنشورة حول أعداد المواطنين اليهود الذين غادروا الدولة، بنية عدم العودة إليها والأسباب التي دفعتهم إلى ذلك. ورغم الفوارق والتقييمات حول حجم وأسباب هذه الظاهرة، تبقى الهجرة اليهودية المعاكسة من إسرائيل حدثا لافتا؛ فهي، من جهة، تسبب القلق داخل أروقة الحركة الصهيونية وتياراتها المتعددة، وشاهدا على حدوث تصدع ما في الإجماع الصهيوني، بينما تنظر إليها، من جهة أخرى، عدة أطراف عربية بعين الرضا والاستحسان، إذ يعتبرها البعض أحد أوجه النصر على الدولة العبرية وعلامة فارقة على تفكك مجتمعها الآيل حتما إلى السقوط والهزيمة، حسب هؤلاء.
لم تبدأ ظاهرة هجرة المواطنين اليهود المعاكسة بعد السابع من أكتوبر، كما يظن البعض، وبعد تداعياته على جميع جبهات النار، مع أن وتائرها ازدادت طبعا بسبب هذه الحرب؛ فأوساط واسعة من بين المواطنين اليهود بدأت في السنوات الأخيرة تشعر بأن استفحال قوة التيارات اليمينية الصهيونية العنصرية، وهيمنة التيارات المتدينة الصهيونية على فضاءات الدولة، وعلى مؤسساتها السيادية، ونجاحها بفرض عقائدها وأجنداتها السياسية والاجتماعية على مراكز السلطات الثلاث، أدّى إلى ولادة إسرائيل جديدة ومغايرة، بحيث غدت كيانا لا يشبه إسرائيلهم، ولا يتطابق مع ظروف المعيشة والهوامش الثقافية والحريات الأساسية وسلامة وأمن المواطنين، كما كانوا يريدونها ويحلمون بتحقيقها.
لقد وصلت تلك المجموعات إلى قناعتها وقرارها بالهجرة، بعد انتهاء انتخابات الكنيست الأخيرة وتشكيل حكومة نتنياهو الحالية والشروع بتنفيذ ما سمي بخطة «الاصلاح القضائي»، التي لم تكن إلا عملية انقلاب شامل على جميع مؤسسات الدولة، وعلى طبيعة نظام الحكم فيها، وتأسيس كيان جديد سيكون أقرب إلى «مملكة إسرائيل» التوراتية، على ما تستوجبه هذه الحالة من خطوات لضمان السيادة على أرض إسرائيل الكبرى، وأساليب معاملة من تعتبرهم التوراة «أغيارا».
لا يعرف أحد كيف ستتطور هذه الظاهرة، ولا من ستشمل في المستقبل، وكم ستبلغ أعداد اليهود المهاجرين من إسرائيل إلى غير عودة؛ بيد أني على يقين بأن أولئك العرب الذين أبدوا فرحهم بها وقناعتهم بأننا نقف إزاء علامات ربانية أو آدمية، ونشهد نهاية إسرائيل، يستعجلون النهايات المرغوبة لديهم، من دون أن يتعمقوا في معالم ومعطيات الواقع، ولا أن يتحققوا من حقيقة ما يجري وهو، في معظمه، كارثي على جميع الفلسطينيين. فوفقا لبعض الدراسات الإسرائيلية الأخيرة، يتبيّن أن ما يسم معظم الشرائح اليهودية المهاجرة، أو المرشحة للهجرة من إسرائيل هو أنها تنحدر من خلفيات علمانية، كانت وما زالت ترفض فرض سياسات الإكراه الديني، المتوقع أن يحصل في إسرائيل في السنوات المقبلة. بينما تنتمي أجزاء أخرى منها إلى الطبقة الوسطى القادرة ماديا على الهجرة مع عائلاتها، والمؤهلة أكاديميا ومهنيا للانخراط في المجتمعات الرأسمالية الغربية، والشروع ببناء حياتها العائلية هناك. وفي الوقت نفسه تبيّن هذه الدراسات أن أكثرية الشرائح اليهودية المتدينة، أو المحافظة، وتلك التي تنضوي تحت أطر أيديولوجية عنصرية متزمتة، ومثلها أفراد الطبقات اليهودية الفقيرة والمسحوقة، لا تفكر بالهجرة من إسرائيل، ولا بأي ظرف من الظروف، وهم بطبيعة الحال الأكثرية الساحقة.

نعيش بين فكي المفارقات والاحتمالات العبثية، فإسرائيل تنحدر بسرعة جنونية نحو هاويات مظلمة، وجميع مؤسساتها غير معنية بإيقاف شلالات الدم النازف في شوارع قرانا ومدننا

لقد تطرقت بعض تلك الدراسات للأوضاع القائمة داخل التجمعات العربية في إسرائيل؛ ورغم فقر المعطيات العلمية حول وجود، أو عدم وجود ظاهرة الهجرة وأنماط التفكير حولها بين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، نلاحظ أن أوساطا معينة من داخل هذه التجمعات، بدأت تهجس بالفكرة، وتتحدث عنها علنا، كمخرج طبيعي وحتمي للخلاص من آفات واقعها المأزوم حتى اليأس، وكوسيلة للنجاة من سياسات الحكومة، لاسيما في غياب دور القيادة المؤهلة والقادرة على المواجهة.
لم يغب شبح التهجير عن عقول وعن أحلام المواطنين الفلسطينيين الباقين في وطنهم منذ عام النكبة وحتى أيامنا الحاضرة. وقد دفعهم هذا الخوف، طيلة العقود الماضية، إلى التشبث بهويتهم الجامعة، وإصرارهم على التجذر في مواقعهم ومواجهة سياسات القمع والاضطهاد والتفرقة العنصرية، التي مارستها حكومات إسرائيل المتعاقبة بحقهم. لقد حولت الجماهير العربية وقياداتها موقفها في مواجهة مخططات التهجير القسري، أو الهجرة الطوعية من برنامج نضالي إلى حالة عيش بديهية، وإلى قناعات فكرية راسخة يتلفع بها كل طفل فلسطيني منذ ساعة ميلاده، ويكبر بهديها ويكفّن بها عند مماته. من الصعب في هذه الأيام، أن نتحدث عن استمرار وجود تلك المسلّمة دون أن نذكر ما أصابها من تصدّعات وشروخ نراها آخذة في الاتساع يوما بعد يوم. ومن لا يريد أن يقر بهذه الحقيقة، إما عن جهل أو مكابرة أو عن مزايدة، يساعد على تفاقم الأزمة، والابتعاد عن إمكانيات فهمها وسبر مسبباتها ومواجهتها؛ فنحن لسنا بحاجة إلى قراءة الدراسات، التي تنتجها معاهد الأبحاث الإسرائيلية، كي نعي أن الحديث عن الهجرة بين المواطنين العرب في إسرائيل آخذ بالانتشار، وأن الفكرة لم تعد بمثابة «التابو» المحظور، ولا تقع تحت باب الكبائر. فالكثيرون بدأوا يشعرون بأن «وطنا» غير قادر على تأمين سلامة أرواح أبنائه وضمان مستقبلهم، لم يعد وطنا كالذي بناه السلف، بل أصبح مجرد «مكان هباء» غير مؤهل للعيش فيه، أو للموت من أجله؛ وأن عيشة مغمّسة بالدم وبقلق حياتي وجودي أمست عبئا على حامليها، وأن مجتمعا فقد جميع كوابحه الاجتماعية الأخلاقية وبوصلاته السياسية، وصار عاجزا عن مواجهة ما يخطط من أجله، يجبر أبناءه على أن يفتشوا عن قوارب النجاة وعن موانئ آمنه حتى لو كانت بعيدة وباردة.
نحن نعيش بين فكي المفارقات والاحتمالات العبثية، فإسرائيل تنحدر بسرعة جنونية نحو هاويات مظلمة، وجميع مؤسساتها غير معنية بإيقاف شلالات الدم النازف في شوارع قرانا ومدننا، بل هناك ما يشي بأنها معنية بها، بل متورطة فيها؛ وحالنا مبكٍ وموجع لكن بعضنا يقسم بأن إسرائيل، صارت قاب قوس من التهلكة وبراهينهم تحت آباطهم، ومن بينها هجرة بضعة عشرات آلاف من مواطنيها الهاربين من حمّى الفاشية ومن دولة الشريعة التوراتية. يقسم هؤلاء ويهيمون بقسمهم ولا يهتمّون ولا يقلقهم أن ملايين اليهود الباقين فيها، حولنا وعلينا وبيننا، هم عصارات الفئات الأكثر تزمتا دينيا والأشرس عنصرية والأصلب عقائديا والأكثر هشاشة واستعدادا، كفقراء وكضحايا لنظام ساداتهم، للانقضاض على المواطنين العرب، لأنهم يؤمنون، كما علموهم، بأننا، نحن العرب، اعداؤهم وأننا التهديد الحقيقي لمصيرهم ووراء جميع مصائبهم وفقرهم. يقسمون وهم على ضفة المفارقة الأخرى، ولا يهمهم أن مجتمعاتهم قد تخلت عن معظم تابوهاتها التاريخية، ومن بينها أجملها وأنبلها، حين مضت فئات مختلفة ترى بالهجرة حلا وملاذا، أو على الاقل تفكر فيها. لم تكُ خيارات تلك الفئات نزوات عارضة أو مقامرات عابرة، فمنذ سنين طويلة ونحن نواجه أحلك الظروف وأشدّها خطرا على مستقبل مجتمعاتنا؛ إذ كنا نشعر بها ونستسلم لعجزنا، حتى فقدنا حواضننا السياسية والاجتماعية، ومعظم الأطر المهنية والنقابية والهيئات النخبوية المسؤولة والشجاعة، ونكتفي بتأثيم إسرائيل، الآثمة طبعا، ونردد ثغاءات الضحايا، مؤمنين بأن ما «ستلقيه السماء سوف تتلقفه الأرض» ونمضي نحو ماضينا ولا نسمع أصداءه وهي تلقننا: هكذا أنت يا دنيا، ترمينا بتيهين وتتركينا: هجرة إلى وهجرة من؛ أو تهجير من وهجرة إلى.. نمضي ويبقى القوي فاجرا، والسذج أيتاما على طاولات الواهمين.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية