لم يخطئ الكاتب البريطاني من أصل أمريكي الفائز بجائزة نوبل في الأدب عام 1948 توماس ستيرنز إليوت عندما شبّه الشاعر الإيطالي دانتي بالشاعر الإنكليزي شكسبير. قال، «دانتي وشكسبير يتقسمان العالم بينهما؛ وليس ثمة طرف ثالث». وإن عاشا في حقبتين زمنيتين مختلفتين وكتبا بلغتين مختلفتين، إلا أنهما اشتركا في سمات أدبية متعددة سارت بأعمالهما نحو العالمية والخلود. فما القاسم المشترك بين هذين العملاقين يا ترى؟ وكيف تأتى لهما ترك بصمة مشتركة لا تُمحى في دنيا الأدب والثقافة والفكر رغم التباعد الجغرافي والفارق الزمني والاختلاف الثقافي بينهما؟
ريادة أدبية وتقديس الإنسانية
وإن اختلف دانتي عن شكسبير من حيث السياق الثقافي واللغة والأسلوب، فقد جمعه به الكثير. كانا من الأدباء الأكثر تأثيرا واحتفاءً في التاريخ. فقد ألهمت كتاباتهما ما لا يحصى من الأدباء والكتاب المسرحيين والفنانين من أبناء عصريهما والأجيال القادمة. واليوم وبعد مرور قرون طويلة على رحيلهما، ما برحت أعمالهما تدرس في المعاهد والجامعات، وتحول إلى أعمال سينمائية ومسرحية تجذب أنظار الجماهير في كل أنحاء عالمنا.
يتأمل كل من شكسبير ودانتي في كتاباتهما الجوانب الأساسية للتجربة الإنسانية، فلا تخلو مؤلفاتهما من ثيمات الحب والأخلاق والخطيئة واليأس وتعقيدات الطبيعة البشرية. فكثيرا ما يغوص شكسبير في أعماق المشاعر الإنسانية، مبرزا ما يستبد بالنفس البشرية من غيرة ورغبة في انتقام ومشاعر الحب والكراهية والوفاء والخيانة. وخير نموذج عن ذلك مسرحيته الشهيرة «هاملت» التي تتناول معضلات أخلاقية وصراعات نفسية عميقة وما ينتاب البشر من شك ورغبة في تصفية الحسابات والثأر. في المقابل، تتجلّى النزعة الإنسانية لدى دانتي في «الكوميديا الإلهية» التي تعدُّ أبرز عمل خلّفه لنا هذا الرجل، وواحدا من أعظم الأعمال في سجل الأدب العالمي، وركنا أساسيا في الأدب الإيطالي.
«الكوميديا الإلهية» قصيدة ملحمية كتبها في القرن الرابع عشر، تحمل لنا رؤية عميقة حول مفهوم العدالة والخطيئة والفداء، تتألف هذه القصيدة من ثلاثة أجزاء: «الجحيم» و»العذاب» و»الجنة». من خلال هذا العمل، يصوّر لنا دانتي رحلة النفس البشرية عبر الجحيم والجنة، ويتناول مسائل الفضيلة والرذيلة والخير والشر والجزاء والعقاب والآثار السلبية لأفعال البشر في الآخرة.
الكوميديا الإلهية
فـ«الكوميديا الإلهية» رحلة دانتي إلى عالم الآخرة. تحلّق هذه القصيدة الملحمية بالقارئ بعيدا عن عالمنا المرئي لتحطّ به في عالم الغيب. فيجول في أرجاء الجنة والجحيم ويشهد ما يلقاه البشر يوم القيامة، من جزاء وعقاب. كل جزء من أجزاء القصيدة تجسيد لمرحلة ما من مراحل الآخرة، وتصوير واقعي وخيالي للجزاء والعقاب. بعد رحلة الجحيم، حط دانتي في عالم العذاب، حيث تتطهر النفوس من خطاياها. هنا، يلتقي بنفوس تائبة تجتهد لتطهير ذاتها من رواسب الخطيئة والإثم والعصيان. ويختم دانتي رحلته في عالم الغيب بالهبوط في عالم الفردوس، يشهد فيه الجمال السماوي والحكمة الإلهية ويلتقي فيه بشخصيات شهيرة خلفت بصمتها في سجل التاريخ على منوال: توما الأكويني الذي كان لاهوتيا وفيلسوفا بارزا في الكنيسة الكاثوليكية، يتعلم منه انسجام الإيمان والعقل. ويخوض في الحديث مع اللاهوتي الفرنسيسكاني بونافنتورا في موضوع التسلسل الهرمي للملائكة وأدوارهم في هذا الوجود. ويلتقي القديس بطرس، البابا الأول وحارس السماء، الذي يوضّح له عقيدة السلطة البابوية. ويلتقي أيضا بالقديس يوحنا، مؤلف إنجيل يوحنا فيكون لهما حديث عن الرؤيا الإلهية وسر الثالوث الأقدس ،وغير ذلك من الشخصيات التاريخية الشهيرة.
مزج التاريخ بالمتخيل
ينسج دانتي سردا ممتعا متداخلا بين التاريخ والمتخيل، يعيد من خلاله بعث عدد كبير من الشخصيات التاريخية الأدبية والدينية. المثير للانتباه قدرة دانتي المذهلة على تصوير هذه الشخصيات بأدق التفاصيل، ما يوحي بمقدار الجهد الذي يكون قد بذله في البحث والاستقصاء للإلمام بالخلفيات والحقائق التاريخية المحيطة بها والسلوكيات المنسوبة إليها في مسار حياتها. ما نلمسه أيضا طوال القصيدة استخدامه الرمزية لنقل رسائل أخلاقية ولاهوتية وسياسية. جدير بالذكر أنّ «الكوميديا الإلهية» لا تُعدّ عملاً دينيا وفلسفيا فحسب، بل تصويرا للوضع الاجتماعي والواقع السياسي في إيطاليا في عصره. كان لهذه القصيدة بالغ الأثر في الأدب والفنون، فلا عجب ما زالت إلى يومنا هذا تُدرس على نطاق واسع في أرجاء العالم، وكيف لا وهي تصوير دقيق وجريء لعالم الغيب غير المرئي وغوص عميق في الوجود الإنساني. نلمس اهتماما مماثلا بتصوير الرموز الدينية لدى الكاتب البريطاني شكسبير. يتجلّى ذلك على سبيل المثال في مسرحية «هاملت» حيث يتأمل هاملت الحياة الآخرة وإمكانية المعاناة البشرية الأبدية في الجحيم، لاسيما أولئك الذين ارتكبوا جرائم القتل.
الكنيسة أكثر تقبلا
تباينت ردود أفعال الكنيسة عن تصوير دانتي للجنة والجحيم والشخصيات الدينية في «الكوميديا الإلهية». لكن وإن كان تصوير الرموز الدينية مثيرا للجدل، بل مرفوضا رفضا قاطعا في بعض الثقافات والديانات، فإن ردود فعل الكنيسة بدت عموما أكثر اعتدالا وتقبلا. وإن انتقدها بعضهم إلاَّ أن عددا من رجال الدين واللاهوتيين قدّروا الجوانب الأخلاقية واللاهوتية التي طبعت «الكوميديا الإلهية» ونظروا إليها على أنها وسيلة مهمة لنشر الدروس الدينية والقيم والفضائل، ودافعوا عن الطبيعة الفنية والرمزية لرحلته إلى الآخرة. وفي واقع الأمر، لم ينتقد المعارضون «الكوميديا الإلهية» لتصويرها الشخصيات والرموز الدينية، بقدر ما انتقدوها لإيمانهم بوجود أخطاء في تفسير العقيدة الدينية، وسوء فهم في هذا العمل. وحتى عندما نشب توتر بين دانتي والكنيسة في وقت ما، آل به إلى الطرد من الكنيسة، لم يكن ذلك بسبب تصويره الرموز والشخصيات الدينية، وإنما بسبب نشاطاته السياسية التي نظرت إليها الكنيسة على أنها تهديد لمصالح البابا آنذاك.
طوّر اللغة الإيطالية
عظمة دانتي لا تكمن في سعة خياله وبراعته الأدبية فحسب، بل أيضا في إسهاماته اللغوية الرائدة. فمثلما ساهم شكسبير في تطوير اللغة الإنكليزية، إذ يعتقد أنه اخترع أو أدخل ما يناهز 1700كلمة إلى اللغة الإنكليزية من خلال مؤلفاته، فقد ساهم دانتي هو الآخر في تطوير اللغة الإيطالية. كانت اللاتينية هي اللغة السائدة في إيطاليا في القرن الرابع عشر. وكانت بلا منازع لغة الأدب والعلوم. لكنّ دانتي انحرف عن ذلك السبيل مفضلا الكتابة باللهجة الشعبية. فقد ألف «الكوميديا الإلهية» بالعامية، أي اللغة المحلية المنتشرة بين الأهالي في منطقته، وكانت تعرف آنذاك باسم «اللغة التوسكانية الإيطالية». كان لقراره الكتابة بالعامية عميق الأثر، حيث ساهم ذلك في نشر أعماله ووصولها إلى عامة الناس في المجتمع. كما ساعد ذلك على نشر اللغة التوسكانية. وباختياره الكتابة بالعامية، لعب دانتي دورا رائدا في إرساء معايير أدبية للغة الإيطالية، وإثرائها وتطويرها. كما ساهم هذا الرجل في توحيد اللغة الإيطالية. كان المجتمع الإيطالي في عصره مشتت اللسان منقسما بين العديد من اللهجات، فأقبلت المناطق الأخرى على استخدام المعايير اللغوية الجديدة التي أملتها عليها الإيطالية التوسكانية، ما ساعد في النهاية على تأسيس لغة إيطالية موحدة.
ثنائي أدبي خالد
دانتي أليغييري وويليام شكسبير ثنائي أدبي خالد، تعدت إسهاماتهما حدود الأدب إلى عالم اللغة. فقد ساهم كل منهما في تطوير لغة مجتمعه وتوحيدها. وتعدى أثرهما حدود الوطن والإقليم ليغمر أرجاء المعمورة. واجتازت أعمالهما المميزة الرائدة اختبار الزمن لتمتد أبعد من عصرهما، فتشق طريقها عبر القرون الطويلة لتحط بيننا فتُثير خيالنا وتنير عقولنا وتأسر قلوبنا. من غوص دانتي العميق في أغوار الروح البشرية في «الكوميديا الإلهية» إلى تصوير شكسبير الخالد لتعقيدات الطبيعة البشرية في «هاملت»، رسم هذان العملاقان الأدبيان مسارا جديدا للأدب والفكر والثقافة.
تأثيرهما الذي لا يعرف قيودا لم يتوقف عند حدود الأدب والفكر، بل تعداها ليمتد إلى عالم اللغة. إنّ دور شكسبير في تطوير اللغة الإنكليزية لا يُقاس، وهو من اجتهد من خلال مسرحياته الساحرة لإدخال مئات المفردات هي اليوم جزء لا يتجزأ من لغة عالمنا. وعلى نحو مماثل، فإنّ قرار دانتي الانفراد بالكتابة باللغة العامية فتح لأعماله أبواب الانتشار والشهرة، ومهد الطريق أيضا لتطوير اللغة الإيطالية. وفضلا عن ذلك كله، فإنّ قدرتهما على مزج التاريخ بالمتخيل، وبعث الشخصيات التاريخية والأدبية إلى الحياة بتفاصيل دقيقة، خلفت بصمة لا تمحى في عالم الأدب والفكر. فهما اليوم أفضل نموذج للأدب الخالد المؤثر القادر على سدّ الفجوات بين الثقافات والأجيال. وبذلك لم يخطئ الكاتب البريطاني توماس ستيرنز إليوت عندما قال، «دانتي وشكسبير يتقسمان العالم بينهما.» فهما فعلا يتقسمان العالم، يتردد صداهما ويسري سحرهما في أرجائه. فإسهامات هاذين الرجلين في الأدب واللغة والتجربة الإنسانية لم تزل بزوالهما، إذ ما فتئت إلى يومنا هذا تثير أنظار القراء والكتاب والباحثين وتلقى صدى لدى الجماهير في جميع أنحاء الدنيا.
كاتب جزائري