منذ احتلال إسرائيل للضفة، كان المستقبل السياسي لهذه المناطق يلقي بظلاله على كل موضوع آخر في إطار العلاقات بين إسرائيل ودول أوروبا، تحديداً حين تشتد الخلافات مع الاتحاد خصواً بعد توقف المسيرة السياسية الإسرائيلية – الفلسطينية، حتى وإن لم يكن بذنب إسرائيل، وعندما تتعاظم النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية في هذه المناطق. وسيثير الضم الإسرائيلي، سواء كان على نطاق واسع أم ضيق لأراض في الضفة، موجة ردود فعل سلبية في أوروبا ستعمق القطيعة بين القيادات السياسية لإسرائيل وقيادات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع لسياقات داخلية في أوروبا تهز الترابط السياسي للاتحاد، أن تصعّب عليه فرض عقوبات شديدة على إسرائيل جراء قرارات حكومتها للضم، ولكن لا شك أن انتقاداً حاداً ضد نية الضم هو روح الأمور في معظم الدول الأوروبية. فضلاً عن ذلك، فإن قراراً إسرائيلياً للضم سيواجه معارضة من كتلة الدول التي درجت على التصويت، مثل الاتحاد الأوروبي في المنظمات الدولية.
بحكم اهتمام الاتحاد الأوروبي التاريخي والسياسي والأمني والاقتصادي بالمنطقة المجاورة لحدوده، فقد حدد لنفسه هدفاً لتصميم المحيط الجغرافي – السياسي، بما فيه حوض البحر المتوسط. فبنود الاتفاق بين دول الاتحاد وإسرائيل في العام 1995، الذي يشكل الإطار الرسمي للعلاقات، تعنى بالحوار الإسرائيلي – الفلسطيني بهدف الوصول”… إلى تقرير مواقف الطرفين في المواضيع الدولية، ولا سيما المواضيع التي لها تأثير على الطرفين، وتعكس تطلع الاتحاد لأداء دور في حل النزاع. ومثلما في مواضيع سياسية دولية أخرى، فإن نهج الاتحاد من مسألة النزاع توجهه مبادئ كونية بينها سلطة القانون، بما في ذلك القانون الدولي، وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات. لم يتغير هذا النهج على مدى عشرات السنين، وهو يتركز على تحقيق حل الدولتين للشعبين من خلال مفاوضات بين الطرفين. يتمسك الاتحاد بموقف يقضي بأن أساس ترسيم الحدود هو خطوط 1967، وهو يعارض المستوطنات الإسرائيلية في الضفة ويرفض قانونيتها. وعلى خلفية معارضة جهات مدنية للمستوطنات، تقرر أن البضائع الإسرائيلية التي تنتج في المناطق التي احتلتها إسرائيل في الـ 1967 لا تستحق إعفاء جمركياً، ولا يمكن للمؤسسات الإسرائيلية العاملة في هذه المناطق أن تتمتع بالتعاون مع هيئات أوروبية يمولها الاتحاد.
في العقد الأخير، أوقف الاتحاد الأوروبي الحوار السياسي مع إسرائيل على خلفية الجمود في المسيرة السياسية الإسرائيلية – الفلسطينية واستمرار توسع المستوطنات في الضفة. كما ينبغي تقدير معاني هذه القطيعة الخطيرة على خلفية التحولات التي سجلت في سياق العقد الأخير في الشرق الأوسط: “الربيع العربي” وبخاصة تفكك عدد من الدول العربية ونشوء مشكلة لاجئين سوريين، هي تحد تقف أمامه أوروبا؛ وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران وعدم التزام هذه الأخيرة بكل تعهداتها بموجبه؛ وتعاظم نزعة العدوان التركية في شرق حوض البحر المتوسط؛ وإصدار خطة الرئيس ترامب لحل النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني وسيطرته على جدول الأعمال الإقليمي. هذه التطورات، على معانيها المتنوعة، جديرة بالبحث في إطار حوار استراتيجي إسرائيلي – أوروبي. ولكن هذا لن يستأنف في ظل قرار بالضم من حكومة إسرائيل.
لقد أعرب الاتحاد الأوروبي في الماضي عن عدم قبوله لخطوات سابقة اتخذها الرئيس ترامب في موضوع النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، أي الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل، وقرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، ومارس ضغطاً على عدد من الدول الأعضاء للامتناع عن السير في أعقاب واشنطن في هذا الموضوع. ومع نشر القسمين السياسي والاقتصادي لخطة ترامب في كانون الثاني 2020، كان رد الفعل شبه الفوري للمسؤول عن موضوع الخارجية والأمن لمفوضية الاتحاد، جوزيف بورل، “رقيقاً” نسبياً: “ندرس الخطة”، ولكنه كان حاداً مع إسرائيل: “كل خطوة إسرائيلية للضم، إذا تمت، لن يكون ممكناً أن تبقى بلا رد”. بمعنى، أن المسؤول لم ينقل إلى إسرائيل توصية بالنظر في خطواتها، ولم يعرب عن استعداد أوروبي للبحث في السبل لتحقيق الحل السياسي للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، بل اتخذ لغة التهديد. وكان الرد الإسرائيلي على ذلك هو الآخر حاداً وعلى لسان مستوى منخفض، ربما بنية استعراض الاستخفاف، فوعد باستمرار الجمود في الحوار السياسي على مستوى رفيع بين إسرائيل والاتحاد، وبالذات حين تكون إسرائيل في مفترق حسم تاريخي. لقد حاول وزير الخارجية الألماني هايكو ماس تخفيض حدة التوتر شديد الضرر بين إسرائيل والاتحاد في زيارة عاجلة إلى إسرائيل والأردن في 10 حزيران. وقال ماس إن مجيئه لإسرائيل كان للإعراب عن قلق جدي وصادق لبلاده وللاتحاد من الضم الذي لا يستوي مع القانون الدولي، ولكن ليس لأن يعرض على إسرائيل تهديدات وتدفيع أثمان. فضلاً عن ذلك، عرض ماس في إسرائيل استعداداً من جانب الاتحاد لإجراء حوار. ومع أن المسؤول عن العلاقات الخارجية في مفوضية الاتحاد لم يكرر هذا الاستعداد في تقريره عن مداولات مجلس وزراء خارجية الاتحاد (17 حزيران)، ينبغي الافتراض بأن وزير الخارجية الألماني ما كان سيطرح هذه الإمكانية دون فحص مسبق.
ينطوي تقدير الاحتمال باستئناف الحوار بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي على المستوى العالي على الإجابة عن عدد من الأسئلة ثقيلة الوزن. فمن جهة، لا يمكن للاتحاد أن يساوم على موقفه المبدئي الرافض لخطوات أحادية الجانب، كبيرة كانت أم صغيرة، حتى لو اتخذتها إسرائيل بعد محاولة فاشلة لإعادة تحريك المفاوضات مع الفلسطينيين؛ لأن الفلسطينيين يرفضون خطة ترامب كجزء من برنامج المفاوضات. ومن جهة أخرى، فإن حكومة إسرائيل مصممة على ما يبدو على فرض القانون الإسرائيلي، وإن كان في منطقة محدودة نسبياً في الضفة. في هذه المرحلة، يبدو أن الجهد الألماني لحمل إسرائيل على الامتناع عن خطوة تفاقم التوتر بينها وبين الاتحاد الأوروبي – لم يعطِ ثماره.
إن مسألة رد الاتحاد المحتمل على الضم، ثم الخطوات العقابية، تطرح في المداولات الداخلية التي تجرى في أوروبا وإسرائيل كلما اقترب موعد حسم الخطوة. يمكن الافتراض بأن ليس هناك توافق في الرأي في هذا الموضوع بين أعضاء الاتحاد، فثمة من يطالبون بتبني سياسة عقاب جماعي – خطوة في مجال سياسة الاتحاد الخارجية والأمن، وستحتاج القرارات بشأنها إلى تصويت جماعي لكل الأعضاء. إن مكانة ألمانيا وموقفها، في نصف السنة القريبة القادمة بخاصة، هي أمر مهم، ولكن يكفي تصويت مضاد من جانب كل دولة أخرى لمنع قرار جماعي. وفي ظل غياب قرار العقاب الجماعي، يمكن للدول أن تقرر خطوات عقابية من جانبها، وإن كان مع العلم بأن الحدود المفتوحة بين أعضاء الاتحاد تخفف آثار قسم من العقوبات التي ستفرضها الدول على إسرائيل في قرار فردي.
حتى لو قرر الاتحاد الأوروبي كله أو دول أعضاء منفردة فرض عقوبات على إسرائيل، من المتوقع أن تنحصر بالنشاط الاقتصادي الإسرائيلي في الجانب الشرقي من خط 1967 بهدف تقليص الضرر الاقتصادي الذي سيلحق جراء ذلك بأوروبا نفسها. هكذا مثلاً استؤنف مؤخراً اتفاق “السماء المفتوحة” في مجال الطيران المدني، الذي يمنح شركات الطيران الأوروبية مرابح كثيرة من الخط الذي تسيره إلى إسرائيل.
لقد ذُكر إلغاء اتفاق إشراك إسرائيل في برنامج البحث والتطوير الأوروبي، “هورايزن 2020″، هو الآخر كإمكانية عقاب من جانب الاتحاد الأوروبي على ضم إسرائيلي للضفة. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن مشاركة إسرائيل في هذا البرنامج هي مصلحة متبادلة صرفة. برنامج البحث والتطوير الجديد “هورايزن أوروبا” الذي سينطلق ابتداء من هذه السنة، قد يتغير بشكل يقلص أهميته لإسرائيل. وضمن أمور أخرى، يسعى الاتحاد لتقييد إمكانية الحصول على منح البحث من خارج مبلغ مشاركة كل دولة مشارة في ميزانية البرنامج العامة. وإبعاد إسرائيل عن “هورايزن أوروبا” سيمس جزئياً بنسيج العلاقات القائمة بين مؤسسات البحث والتطوير الإسرائيلية وبين المؤسسات في أوروبا، ولكنه لن يلغيها. فالأموال التي كانت مخصصة للدفع كبدل مشاركة في البرنامج الأوروبي يمكن لحكومة إسرائيل أن تضخها مباشرة لهيئات البحث والتطوير الإسرائيلية. وفي سياق مبادئ العقاب التي توجه خطى دول الاتحاد الأوروبي، ستذكر الإجراءات التي اتخذت ضد روسيا على الضم في أوكرانيا. وقيل إنه على الرغم من العقوبات، ستبقى “علاقة انتقائية في مواضيع وفي مناطق للاتحاد مصلحة فيها، وكذا سيتضاعف الدعم للمنظمات في المجتمع المدني الروسي في إطار علاقات الشعب مع الشعب.
في ضوء الرد على الضم المرتقب في إطار الاتحاد الأوروبي، نوصي حكومة إسرائيل بتأجل قرار الضم -حتى لو عرض كرمزي فقط- وبخاصة في الأشهر الستة التي ستكون فيها ألمانيا الرئيسة الدورية للاتحاد الأوروبي، وكذا بحكم كونها –بالتوازي- عضواً حتى نهاية 2020 في مجلس الأمن في الأمم المتحدة. ليس للاتحاد الأوروبي أغلب الظن قدرة على إلحاق ضرر اقتصادي كبير بإسرائيل، يمنع حكومة إسرائيل عن القرار بالضم، وكذا فإن تآكلاً متواصلاً في العلاقات مع أوروبا وانعدام الحوار السياسي مع الاتحاد الأوروبي ليس فيه، على ما يبدو، ما يكفي لمنع قرار الضم. من جهة أخرى، فإن إمكانية وصول رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض في بداية 2021 ثم تكون للاتحاد مصلحة معه في استئناف الحوار العابر للأطلسي حول سلسلة مواضيع بينها النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.. تستوجب موقفاً إسرائيلياً من العامل الأوروبي- يتجاوز حساب الأضرار. في الحوار الأمريكي/الديمقراطي – الأوروبي، ينبغي الافتراض بأن الطرفين –ولو لم يتنكرا لخطة ترامب– سينتقدان ويشجبان خطة ترامب، وقد ينظران في خطوات ضد ضم أحادي الجانب، إذا ما تمسكت إسرائيل بنيتها فرضه في الضفة وفق روح الخطة.
بقلم: عوديد عيران وشمعون شتاين
نظرة عليا 5/7/2020