بين ذراعيها

حجم الخط
0

(الى مدرستي الابتدائية أبي تمام)

الآن،
جسدُ مترَعٌ بالأشجان, وذاكرة مثقوبة تبرق بوهج الدماء،
أقف في باحتك المرمر،
وأُمِّرغ الروح في هذا الضوء الملتمع من أرضك المباركة،
أستعين على نزيف عقلي برفيف فراشاتك الحالمة،
انفض الغبار عن وجهي واسري صوب سرب الحمام،
المستكين في شرفاتك الوادعة ..
الآن،
هذا الكهل الفتى يقف في فنائك المشحون بالإشراق،
جسداً مهزولاً وروحاً متعثرة تنتظر «بدلة» معونة الشتاء،
عيناه حريق وصوته همسة حائرة ..
الآن،
هذا الصبي الكهل, مكبل ومطحون القلب،
تشجيه العجلات والمدرعات،
لا يبصر في السماء سوى بذاءة الطائرات ..
بين ذراعيك كنت أبصرت السماء أكثر من زرقاء،
والشمس قطرة ندى ناعمة،
وكنتُ رأيتُ جدرانك مزدانة بزغب العشب،
وحرير الخضرة المنداة بصلاة الملائكة ..
الآن،
أين أنا من ذراعيك؟
في أي غيهب جُبٍ أهوي وعلى أي جمر أتقلب؟
الآن،
بعيداً عن ذراعيك،
السماء دخان والشمس مطفأة،
المياه حطب يابس وروحي خشبة،
الآن،
تنادينني أم أُناديك؟
روحي جناح قطاة هائمة, ودمي براق تحرسه الملائكة،
أسري بكلي وأسري ببعضي،
كي ألمَّ شظايا روحي المتناثرة،
أُقِّبلَ ترابك الغض, وأكرع جرعة ماء من بئرك السلسبيل ..
الآن،
أتحسس رغيف خبز التنور،
أدنيه من قلبي أرش عليه السكر وأُبلَّه بالماء،
وأشعر بالدفء يسري في عروقي اليابسة،
والآن،
طعم الرغيف مر وشائك وبارد مثل زمهرير ليل الإحتلال،
ماذا جرى للصبي؟ وكيف أضاعته الطرقات؟ ..
أمسك الآن،
شدو عصافيرك الشريدة،
وألوذ بحزن الفواخت في شرفاتك العالية،
يقودني النداء الى البشير والنذير،
يستبدل أسلاك دمي الصدئة،
سنبلة مرة ومرة قنبلة،
يهديني اللهب ويرميني في الجلجلة ..
الآن،
أجدني فيك؟ أم تجدينني؟
أناديك أم تنادينني
اهرب من نفسي اليك ام اجدني لديك؟ ..
الآن،
أُبصرني أُكَحِل عيني بضوء علم العراق،
وأنشد مع الفتية المشاكسين المتراصفين في ساحة المدرسة ؛
– موطني, موطني،
الآن،
أنفض هذا الرماد عن علم بلادي وأطرد كلَّ الأعلام المدنَّسة،
الآن،
دمي يهتف ودمي ينشد،
ودمي يرفرف في سمائك اليافعة،
بين ذراعيك كنت تقلبت في مشيمة الخلق،
أدركت رحم المحلات العتيقة وارتميت في نعومة النهر وسر الغابات،
آخيت بين الحليب المحبوس في صدري وحليب «الجاموس»
لأمسك وهج الجمر في الغام جسدي،
وأرتبك أمام خشونة صوتي المبكرة ..
الآن،
أذكر شرف الفقر وقدسية الفقر،
وهزيمة دسائس «أبناء الذوات»
أمام النور المنهمر من رأسي البركان،
وأذكر أغنيتي الفارعة،
واذكر دمعتي ودمي المسفوح في الطرقات ..
الآن،
أذوي كالحب بين يديك،
أشهق بالحنين والحريق،
وأمسك خيط النور المنبثق من صدرك الخصيب،
أجعل منه قنديلاً، ودليلاً،
وأجعل منه،
زادي وزوادتي في طريق الجلجلة ..
الآن،
لك وحدكِ،
أن توقفي نزيف هذا الجرح الراعف،
في ليل الإحتلال،
وأن تعيدي وسامة طفولتي الضائعة .

أكاديمي وشاعر عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية