توج الشهر الماضي، جان باتيست أندريا، بجائزة غونكور، وهي أعلى التشريفات الأدبية في فرنسا، عن روايته الأخيرة: «أعتني بها» التي تسرد قصة شخصيتين: ميمو وفيولا، اللذين يجعلان من حكايتهما قصة لسرد ما وقع في القرن العشرين، وما حصل بين إيطاليين وُلدوا وعاشوا في فرنسا، كحال المؤلف نفسه كما لو أنه يروي قصة الأجداد. هي رواية تستعيد تقلبات البلاد في السياسة والمجتمع، طوال ما يقرب من مئة عام. رواية ظهر فيها جان باتيست أندريا مثل حكاء قادم من زمن ولّى، يُغلّب الحكاية على الأسلوب، بينما الرواية الفرنسية ـ في عمومها ـ تكاد تفقد شغف الحكاية ـ في السنين الأخيرة ـ وتغلّب بدلاً عنها الفلسفة والتنظير والأطروحات السياسية. المميز في جائزة غونكور هذا العام أن توجت رواية صدرت عن دار نشر صغيرة مقارنة بدور النشر الكبيرة المعروفة في فرنسا، نقصد منها دار «إيكونوكلاست» التي تأسست عام 1997 وتخصصت في الكتب الفنية، قبل أن تنتقل في السنين الأخيرة إلى الكاتب الأدبي، لذلك عمت الفرحة هذه الدار، وعقب الفرح بدأت حكاية أخرى عن هذه الرواية الفائزة، حيث ظهر صاحب الدار في حوار وحكى قصة مخطوطة «أعتني بها» وكيف تحمس لها هو وزوجته، التي أتمت قراءتها في الرابعة صباحاً، وودت أن تتصل بالمؤلف في الحين، لكن زوجها أمهلها حتى طلوع النهار، ثم اتصلا به في الثامنة صباحاً، كي يبلغانه نيتهما في نشرها. وسبب إسراعهما إلى التواصل معه أن خافا أن يتوصل إلى اتفاق مع دار نشر أخرى فتضيع منهما الرواية. لكن جان باتيست أندريا جاوبهما بما سوف يثير دهشتهما، فقد أرسل مخطوطة تلك الرواية إلى عشر دور نشر ولا واحدة منها قبلت نشرها. نعم، عشر دور نشر رفضت نشر مخطوطة الرواية التي سوف تحوز التشريف الأدبي الأكبر في فرنسا، هذا العام، لكن دار «إيكونوكلاست» راهنت عليها وكسبت الرهان.
هذا التفصيل يُعيد إلى الأذهان وقائع مُشابهة، عن تلك الروايات المهمة الأخرى التي كادت ألا تجد طريقها إلى النور، ولا إلى القارئ، روايات كادت أن تظل في حكم المجهول كحال رواية «أعتني بها» التي نجت في آخر لحظة.
اللحظة الأولى مع مخطوطة لحظة حميمة
ما الذي يجعل ناشراً يقبل مخطوطة رواية ويرفض أخرى؟ صاحب دار «إيكونوكلاست» يجيب قائلاً إن «اللحظة الأولى مع مخطوطة لحظة حميمية» هي لحظة تلعب فيها العوامل النفسية دوراً تماماً، مثل التقديرات الأدبية، ففي تلك الأثناء لا تكون القراءة خاضعة لأحكام أدبية وحدها، بل كذلك تتعلق بمزاج الناشر في ذلك اليوم، إلى ميوله في القراءة، إلى نزعته الأدبية إلى نوع من الكتابة بدل الآخر، هناك يصير العامل النفسي عاملاً حاسماً في اتخاذ القرار، في ظل هذه التأثيرات الذاتية يحيلنا التاريخ إلى عدد كبير من الأعمال الروائية المهمة، التي كادت أن تخطئ طريقها إلى المطبعة، فلا ترى النور ونحرم منها، كذلك الحال مع مارسيل بروست (1871-1922) الذي صار من أعلام الأدب في فرنسا، والذي قضى عاماً كاملاً بين 1912 و1913 وهو يرسل مخطوطة الجزء الأول من روايته «البحث عن الزمن الضائع» إلى دور النشر من غير أن يقبلها أحد، إلى أن وصلت إلى الناشر الأخير الذي سوف يتبنى نشرها، ثم تصير رواية مرجعية ليس فقط في فرنسا، بل في الآداب العالمية. كذلك الحال مع صموئيل بيكيت، الذي واجه رفضاً من دار (لوسوي) حين توجه إليه بمخطوطه الأول، قبل أن يجد طريقاً إلى القراء في دار (مينوي) وتقر، في الوقت لاحق، دار لوسوي أنها ارتكبت خطأ برفضها لهذا الكاتب الذي سوف يحوز نوبل للأدب عام 1969.
في الزمن الحديث سوف نصادف أسماء معروفة أخرى واجهتها دور نشر بالرفض، في بداياتهم، على غرار ميشال ويلباك أو قبله أندري ماكين، فالطريق إلى نشر الرواية الأولى لم يكن سهلاً، بل دائماً ممزوجاً بالحسرة، بإجابات متشابهة من دور نشر، تبدأ بعبارة: «لقد لفت انتباهنا مخطوطكم… لكن» بعد «لكن» يأتي الرفض بشكل مهذب. فدور النشر تتشارك في طريقتها في رفض المخطوطات، لكنها تختلف في قبولها. فكل دار نشر لها حكاية مع كتاب رُفض من قبل آخرين، ثم صدر عنها وصار عملاً لاقى إجماعاً.
ما بعد رفض رواية
ما سبق قوله، لا يعني أن كل رواية يُصادفها رفض من ناشر فهي عمل خالد، فكثير من الروايات الجيدة قُبلت منذ المرة الأولى، لكن هذا الوضع يحيلنا إلى حالة النشر. فالناشر يستقبل يوميا العشرات من المخطوطات، وهو أمر ليس سهلاً. ليس سهلاً أن يفرز بينها في وقت وجيز، وليس متاحاً له أن يكون دائماً في مزاج حسن، قصد القراءة، لذلك يستعين الناشرون بلجان قراء، وهم كذلك أشخاص يخضعون إلى تقلبات نفسية في قراءاتهم الأولى للمخطوطة التي تصل بين أيديهم، بالتالي يصير الكاتب مضطراً إلى الصبر، إلى تقبل الرفض والقفز فوقه إلى تقديم مخطوطته إلى ناشر آخر، أن يتمتع بصفات عداء سباقات طويلة، أن لا ينتظر نتيجة إيجابية من مجرد إرسال كتابه في الإيميل إلى ناشر، بل أن يدرك أن هناك حواجز وأنه سوف يكرر الفعل نفسه مع ناشرين آخرين، قبل أن يصل إلى الدار التي سوف تتبنى عمله. فالانتهاء من مخطوطة، لا سيما عندما يتعلق بكاتب ناشئ، ليست هي نهاية المطاف، بل سوف يضطر الكاتب إلى بذل جهد ووقت مماثلين للجهد والوقت اللذين بذلهما في كتابتها، قصد الوصول إلى ناشر. وفي هذا العالم مع ارتفاع مستويات التعليم، بات الجميع بوسعه أن يكتب، وفي ظل ركود سوق الكتاب، بات الناشرون حذرون في اختيار الكتب التي يرغبون في نشرها، تفادياً لخسائر مادية محتملة أخرى.
روائي جزائري