لم تقف تداعيات أحداث الانتفاضات العربية ضد الأنظمة المستبدة المطاح بها في عام 2011 في البلدان التي عرفت بدول الربيع العربي، سواء من حيث تراجعها الاقتصادي او الاستقطاب السياسي المتزامن مع خلافات اجتماعية وتدهور أمني بصورة لم يسبق لها مثيل، وكذا احتدام إشكالية الإسلام السياسي وصراع التيار الإسلامي مع ما عُرف بالاتجاه العلماني، وكذلك إذكاء الخلافات المذهبية وتكالب دول الجوار العربي (سواء كانت إيران أو تركيا) للانغماس في تلك الأحداث الطائفية التي شهدتها تلك البلدان ومنها أيضا العراق. انعكس ذلك على تفكيك النظام الإقليمي العربي المتداعي أصلا، وغدت العلاقات العربية العربية في أسوأ مراحلها، ومن سيئ الى أسوأ، واللافت أن الجامعة العربية التي هي انعكاس لهذا الواقع المهلهل تقف موقف المتفرج، ولم ينعقد مؤتمر قمة عربية، وكانت قمة بغداد مجرد اضفاء الشرعية على النظام العراقي، الذي لم تستسغه اقطار المشرق العربي، بالنظر لحساسية التطورات المذهبية في هذا البلد، وعموما يمكن القول بأن العلاقات العربية ـ العربية في السبعينيات وحتى الثمانينيات تعبر عن حالة من التجانس والتوافق بين الانظمة وحتى النخب المثقفة غير المستقطبة سياسيا، على النحو الذي تعانيه اليوم.
وكان الرأي العام العربي يعتقد أن مرحلة التسعينيات، التي شهدت انفراجا دوليا بأفول النظام الثنائي القطبية والحرب الباردة، قد تنعكس ايجابيا على بقاع مختلفة من العالم الذي كان مستقطبا وحليفا لهذا الطرف الدولي او ذاك، ولكن الأمور سارت للأسوأ حيث تزامنت تلك الحقبة مع تداعيات غزو العراق للكويت، ومن يومذاك أصيب النظام الإقليمي بصاعقة وصدمة قسمته لفريقين، لحين من الدهر، فقد عانى شعب العراق حصاراً ظالما انتهى بغزو وحشي بربري بمباركة عربية للأسف، والنتيجة أسفرت عن (عراق جديد) مهلهل مغاير لنظام صدام حسيـــــن، ورغم ذلك لم يتأقلم ويتجاوب جيرانه العرب بدعوى انه طائفي، وترك العراق لبضع سنوات فريسة للاحتلال الأمريكي الذي فكك بنيته الاجتماعية وحل جيشه وانتهى الأمر بتسليم العـــراق لإيـــران لقمــــة سائغـــة، وقد تزامن ذلك مع تزايد النفوذ الإيراني في أكثر من دولة عربــية، فإضــــافة للعراق احتدم واستجد صراع طائفي في لبنان وسوريا والبحرين واليمن، وقد شهدت كل هذه الأقطار حروبا طائفية مقيتة، اللافت أن العرب لم يسخّروا ثرواتهم لبناء أوطانهم أو مساعدة بلدان أخرى من بني جلدتهم وملتهم، بل تآمروا عليهم وسخروا تلك الثروات الهائلة لوأد ثورات الربيع العربي، التي خلعت الأنظمة العسكرية المستبدة، ودأبت تلك الدول على إحلال أنظمة، هي في واقع الحال استنساخ لتلك الأنظمة العسكرية ولكن بأشكال أخرى، مستغلة حالات الفوضى التي أعقبت أفول تلك الأنظمة وتدهور الحالة الأمنية والاقتصادية، فاستغلت نقمة شعوب بلدان ما عرف بالربيع العربي، وهذا ما حدث في مصر بعودة الحكم العسكري، بل اصبح مرحبا به، وكأن العرب لا ينسجمون سوى مع الأنظمة الملكية او العسكرية الشمولية.
‘نفط العرب للعرب’، شعار انتهت صلاحيته منذ عقود فقد كان مؤملا ان تستفيد الأمة المتباينة الثروات فيطعم غنيهم فقيرهم، ولكن الأمر غير ذلك فقد برز هذا الشعار في السبعينيات كشعار تفاءل وأمل لهذه الأمة حتى من بلدان الخليج ذاتها، فالملك فيصل بن عبدالعزيز سخر النفط من اجل معركة العرب في حرب 73، فتم بالفعل تنفيذ تلك التهديدات، وكان للنظام الاقليمي العربي انذاك الحد الأدنى من التضامن واستمر لعشية التسعينيات، قبل ان تتحول بوصلة العرب لنزاعات داخلية، فعندما سخر العرب نفطهم للحرب مع العراق ضد إيران كانت رؤاهم واحدة، رغم اخطاء تلك السياسة في حرب بين بلدين إسلاميين استمرت لثماني سنوات عجاف، وأكلت تلك الحرب الأخضر واليابس.
وفي نزاع العراق مع الكويت ثارت ثائرة الغرب وتجاوب العرب لكلمة واحدة ضد العراق، ورغم ان الحربين شهدت أخطاء إستراتيجية، ولكنها في الحالة الثانية كانت ضد مصالح العرب لان احد البلدين كان حليفا للغرب، لقد كانت النتيجة تمكن الغرب ثم ضرب العراق بالكويت وتدمير النظام العربي، وشهدت مرحلة التسعينيات حتى مطلع الألفية خلافات بين أصحاب الاتجاه الواحد، فالعراق في عهد البعث سواء كان عهد صدام حسين او من قبله، وسوريا كان الخلاف بينهما مزمنا، رغم ان كلا البلدين يسيران تحت راية القومية العربية وحزب البعث تحديدا.
اما بعد عصر الربيع العربي المفترض ان يغير مثل أولئك الحكام فقد جاء على غير المؤمل منه، فضرب العرب بعضهم بعضا، بل ان شعوب تلك البلدان أنفسهم اخذوا يضربون بعضهم بعضا وتركوا حكامهم المستبدين وتناحروا في ما بينهم، ولا ادري مدى عبقرية اعدائهم الذين سخروا ثرواتهم لقتال بعضهم بعضا من دون ان يتحمل الاعداء اعباء مادية أو اخلاقية، فبعد الخلاف الطويل بين نظامي البعث بين بغداد ودمشق صار الخلاف بين دمشق وبيروت، ومن ثم غداة الربيع العربي تحارب السوريون مع أنفسهم والأمر نفسه في العراق الجديد، وانتقلت العدوى إلى كل بلدان الربيع العربي تحديدا، فقد ضرب اليمنيون باليمنيين وقسموا شيعا وأحزابا، وتفرقوا جهويا فالجنوب ينادي بانفصاله عن الشمال، وهم بهذا يعاقبون الأرض بدلا من ساستهم، وحال العرب كل له طريقته في التخريب فالسودان تقسم واختلف المقسم في ما بينه، فجنوب السودان يشهد صراعا داميا، وكذا الامر نفسه بالنسبة لمصر، فانقسم الشعب الى فريقين فريق يؤيد الفريق السيسي وفريق مع الاخوان المسلمين وسواهم، ولن يستقر لهم امر طالما همش جزء كبير من الشعب، وليست ليبيا بمنأى عن تلك الخلافات. لا بد من الاعتراف بالعبقرية السياسية للاعداء وان كان ذلك اعترافا مؤلما، وكأن العرب بهذه الخلافات الثنائية والهامشية يؤكدون للعالم أنهم غير مؤهلين للتحول الديمقراطي، رغم التقدم والتحولات الاقتصادية والثقافية التي شهدتها البلدان العربية، وعجبي لأمة في ثوراتها المفترضة بدلا من تصحيح مسار العلاقة بين الحاكم والمحكوم غدا الخلاف بين مكونات الشعب نفسه مذهبيا وجهوياً.
‘ دبلوماسي يمني وكاتب سياسي
السلام عليكم الاستاذ العمراني و شكراً لمقالك التحليلي القيم
أذا ركزنا على الفقرة الاخيرة من مقالك وفيها بتقديري “الخلاصة”..أقول أن العرب وتحررهم (بعد قرون من الظلم والفساد والاستبداد والكبت والحرمان) سوف لن تكون “رحلة نزهة” ولكوننا بشر سيستغرق هذا التحوّل أجيال عدة ولكن و كما أوضحت من أنه : “لا بد من الاعتراف بالعبقرية السياسية للاعداء” أقول أن نيل الحرية والتحول الديمقراطي (الحقيقي) للعرب و المسلمين ستكون أصعب و أعقد بمراحل عما جرى على سبيل المثال في أوروبا في عهد التنوير والتحررمن الكنيسة …و يبدو و الله تعالى أعلم أن هذا قدرنا كأمة نسيت كتاب ربها العزيز و سنة نبيها الاكرم صلى الله عليه و سلم.