لم يكن ابن رشد محبوبا عند العوام، على الرغم من أنه كان طبيبا والعامة شغوفة بالطب، لأنه يساعدها على الشهوات الحسية، وكان أيضا فقيها، والعامة تقدس الفقه، لأنه الضامن على حياة أخرى في الجنة، بيد أن تهمة الفلسفة كانت بمثابة حجاب بين ابن رشد والعامة، ذلك أن النظام الاستبدادي جعل من الفلسفة تهمة؛ «ونقم المنصور على جماعة أخرى من الفضلاء الأعيان، وأظهر أنه إنما فعل بهم ذلك بسبب ما يدعى فيهم أنهم مشتغلون بالحكمة وعلوم الأوائل» لكن لماذا أصبحت الفلسفة تهمة في المغرب والأندلس؟ ومن قام بصياغة هذه التهمة؟ هل التطرف الديني للموحدين؟ أم أن انتشار الجهل في الأوساط الشعبية، التي تسير من قبل الحركات المتطرفة؟ بل أكثر من ذلك، كيف كانت العامة تستقبل العلوم الأخرى والفنون؟
لا توجد وثائق رسمية تؤرخ لهذا العصر، فكل ما يوجد هو التاريخ الرسمي، لأنه بمجرد طرد العرب من الأندلس، بعدما انتهى تاريخهم الثقافي، وأحرقوا المخطوطات كلها إلا ما كان في خدمة أمير المؤمنين والأمراء، والأثر الوحيد الذي تركوه هناك هو المساجد التي شيدوها في كل المدن الأندلسية، وقد تحولت إلى كنائس، وتحول قصر الحمراء إلى متحف للسياحة، بل تحولت الأندلس كلها إلى جرح عميق في كينونة التيار الأصولي، الذي كان يراهن على الجهاد المقدس. واختفى ابن رشد، واختفت معه الفلسفة، وتلك الشروح لمؤلفات أرسطو، وتم حجب الكينونة بحجاب مقدس، ولعل هذا بالذات ما كان يريده الحزب الديني، الذي يتحمل المسؤولية عن تدمير كينونة الأمة وتحطيم إرادتها .
هناك حكايات سخيفة يتخذها أعداء الفلسفة، من أجل كشف القناع عن إلحاد الفلاسفة، وما زالت هذه الحيل السخيفة إلى يومنا هذا، فحسب الأنصاري الذي قال إنه من عادة ابن رشد أن يقول «إن أعظم ما طرأ عليّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا في قرطبة، وقد حانت صلاة العصر فثار علينا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه» وهناك حكاية أخرى تقول إن العامة كانوا يفتشون ابن رشد للبحث عن أثر الوضوء عليه.
من المؤسف أن يتم تحطيم المجتمع العلمي بواسطة المجتمع الديني، ولذلك فإن الأطروحة الاستشراقية ركزت على الصراع بين الحزب الديني والحزب الفلسفي والعلمي، حيث نجد رينان يقول عن أسباب نكبة ابن رشد؛ «ودسائس البلاط هي التي قامت عليها فتنة إيذاء ابن رشد، ذلك أن الحزب الديني وفق لطرد الحزب الفلسفي، لأن ابن رشد لم يضطهد وحده، فقد ذكر أعيان كثيرون من العلماء والأطباء والقضاة والشعراء قاسموا ابن رشد نكبته».
إذا كان لا بد من إقحام العامة نكبة ابن رشد، فلأن النظام الثيوقراطي يعتمد على العامة في سيطرته على الخاصة، وقد وجد في الدين وسيلته من أجل الهيمنة ونشر الطاعة، فقراءة الواقع الأندلسي في عصر ابن رشد يقود إلى خلاصة مرعبة، ذلك أن الحياة الثقافية لم تكن سوى تجليات للتدين الشعبي، كما أراده وحداني التسلط، فالمساجد وحدها تشتغل وتحفز العامة على الجهاد لمواجهة تهديدات “العدو المسيحي”، لأن الحرب لم تهدأ، وظلت كذلك إلى أن انتهت بالطرد، فالبراديغم الرشدي كان مدهشا، ولم يقاوم طويلا، فبين عشية وضحاها تم هدمه، نفي الفيلسوف ومن معه إلى قرية يهودية، ومحاكمة حلقة ابن رشد، وإحراق الكتب، هكذا تم تجييش العامة ضد هذه الحلقة الفلسفية .
مهما يكن من أمر، فإن نقل الأزمة من المشرق إلى الأندلس كان له ثمن باهظ، خسران الفلسفة والعلم، وخسران الأندلس، لأن ما قام به المتوكل مع حلقة الكيندي قام به يعقوب المنصور مع ابن رشد، ثلاثة قرون وكأنها ثلاثة أيام، يتم فيها فضح الوجه الشرس للطاغية ومحيطه المتطرف.
مهما يكن من أمر، فإن نقل الأزمة من المشرق إلى الأندلس كان له ثمن باهظ، خسران الفلسفة والعلم، وخسران الأندلس، لأن ما قام به المتوكل مع حلقة الكيندي قام به يعقوب المنصور مع ابن رشد، ثلاثة قرون وكأنها ثلاثة أيام، يتم فيها فضح الوجه الشرس للطاغية ومحيطه المتطرف، ذلك أن محبة الحكمة تحولت إلى لعبة لتسلية أمير المؤمنين، ويأتي التدمير من أجل إشباع رغبته في الهدم.هكذا ظلت الفلسفة متهمة تدافع عن نفسها إلى يومنا هذا، وظل الحزب الديني هو نفسه يمارس الهيمنة باسم الحق الإلهي على تلك النفوس المريضة بالجهل، وبما أن الاختلاف قد اختفى في العدمية، فإن التطابق يوحي بتوقف الزمن وسكون العقل وثبات المعرفة في هذا الفضاء الثيولوجي، الذي تمرد على جدل التاريخ، وحرم هذه الأمة من الوعي التاريخي لكي تنعم بالوعي الشقي، فالمؤامرة ضد جدل العقل والتاريخ لا تكون إلا باسم التدين الشعبي الممتزج بالخرافة والأساطير، فهل معنى ذلك أن روح هذه الأمة تولد محرومة من الفطرة الفائقة؟ وإلا ما معنى تعويض المعرفة والعلم بالدين والجهل؟ ولماذا يكون انهيار التعليم وتحطيم الفكر هو شعار الأنظمة الاستبدادية؟
الأسئلة سلاح الفلاسفة، إلا أن جوهر هذه الأسئلة لا يمكن امتداده في هذه الأرواح الميتة قبل الموت، ومن المستحيل الدفاع عن ابن رشد وإثبات براءته، ما دام التيار الأصولي يتحكم في السلطة، وقد اعتمد المقاربة الدينية لإضفاء شرعية المقدس على هذه التهمة، ولذلك قام بإدخال الفلسفة في هذا النفق المظلم، الذي شيده الغزالي وطوره ابن تيمية، لم يتردد ابن رشد في مهاجمة زعماء العامة، الذين حرضوهم على الفكر الفلسفي، من أجل استبعادهم، قائلا: «ومن منع النظر في كتب الحكمة مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات».
قام حراس العدمية بحرمان الأمة من كتب الحكمة، وحكموا على روحها بالموت، ولعل هذا الظلم الذي وجه نقده لجوهر العلم، أصبح ركناً من أركان عقيدة ابن تيمية: «إذا ما استهدف النقد جوهر العلم ذاته فسوف يصبح انتقادا ظالما». ومن الطبيعي أن الخداع يقتضي أن يصبح الظالم مظلوما، والمظلوم ظالماً، كما أن قياس الغائب على الشاهد، تحول إلى قياس الشاهد على الغائب، وكل ذلك من أجل إحداث زلزال في قارة العقل، حتى يعتقد أن الماضي هو الحاضر، هكذا تصاب كينونته بمس من الجنون. ولعل هؤلاء العدميين مجانين، لأنهم لم يفكروا ولو ليوم واحد في هذا الطريق الذي قادهم إلى التدهور.
كاتب مغربي