الناصرة – “القدس العربي”: لا ينحصر أثر تفشّي وباء كورونا على صحّة الأجساد البشريّة فقط، بل يتعدّاها ليشكّل تهديداً على الأمن القومي والأمن الاقتصادي للدول المختلفة، بحيث قد يؤدي فشل الدولة في احتواء الوباء إلى انهيار كامل في النظام والاقتصاد وأكثر من ذلك.
في تقرير جديد يتوقف المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) عند تبعات الجائحة على الأمن القومي الإسرائيلي بعيون إسرائيلية وبالتزامن، تتواصل النقاشات على المستوى الرسمي وعلى مستويات أخرى، حول ذلك. وبرأي جهات إسرائيلية إستراتيجية فإن التغيّرات المحتملة المترتبة على كورونا في وضع الولايات المتحدة كقوّة عالميّة واحتمال فشل ترامب في الانتخابات الرئاسية، تمثّل التهديدات الأخطر على الأمن القومي الإسرائيلي، فيما يؤكد “مدار” أن كورونا كشف عن مزيد من الطبيعة العنصريّة التوسعيّة لإسرائيل.
وكان معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي عقد في مارس/ آذار الماضي مؤتمراً بدون جمهور، تحت عنوان: “كورونا، الأمن القومي، الديمقراطيّة” ودار مركز النقاش حول مستوى اللا يقين العالي عند صنّاع القرار، والفجوات الكبيرة في المعرفة والمعلومات حول طبيعة الفيروس وطرق انتشاره وآليّات السيطرة عليه، والتحديّات الناجمة عن وضع يسهّل انتشار الشائعة والأخبار الكاذبة والاضطرابات ونظريّات المؤامرة وقام المشاركون بتحليل عدّة مسارات محتملة، مع التأكيد أنّ أداء الدولة هو أحد العوامل الأساسيّة في ترجيح أحد هذه المسارات. وضمن مسار النقاش برزت ثلاثة مسارات الأول المتفائل- دولة مع إنفلونزا: الإجراءات والتدابير لاحتواء الجائحة فعّالة، العدوى لا تصيب إلّا مئات ولا تقتل إلّا عشرات، والمسار المتشائم- دولة مريضة: جائحة طويلة لن تنتهي خلال الأشهر الستة القادمة ومعظم الدول غير قادرة على احتواء العدوى، تباطؤ النمو في الاقتصاد الأمريكي أو نمو سنوي سالب، وهذا أكبر تهديد لإسرائيل مما يعني آثارا مدمّرة على الناتج القومي الإسرائيلي ونمو سنوي سالب. أما المسار الأسوأ- فهو دولة غير فعّالة: خروج المرض عن السيطرة، انهيار الخدمات العامة، تلاشي الثقة بالحكومة والسلطات، انهيار قدرات صمود الأمن القومي أمام التحديّات الإستراتيجيّة وتعاظم التهديدات الإقليمية.
صراع القطاعات والمؤسسات.. ودور الجيش
كما عالجت مجموعة من الدراسات والمقالات، أثر تفشّي وباء كورونا على الأمن القومي الإسرائيلي على عدّة مستويات، وفي الأسبوع الثاني من الشهر الماضي أثار جنرالات الجيش جدالات حادّة حول قضيتين أساسيتين: صيانة قدرات الجيش لتفادي الاضطرار لإغلاق وحدات كاملة مثل الطيران العسكري والبحريّة ووحدات استخباراتيّة مختلفة، وتقديم الدعم والمساندة للنظام الصحّي والمدني والشرطة.
كشفت أزمة كورونا عن تناقضات حادّة بين القطاع الصحّي الذي يطالب بفرض إجراءات أشد لحماية الصحّة البشريّة، وقطاع الاقتصاد الذي يرفض ذلك لحماية الاقتصاد
وعلى عكس التقارير الإعلاميّة لا تبرز عند الجيش إلى الآن ميول في تحمّل أعباء الوباء، فهو لا يملك أيّة أفضليّة على المنظمات المدنيّة مثل الصحّة والشرطة في التعامل مع أزمة صحيّة. وكشفت أزمة كورونا عن تناقضات حادّة بين القطاع الصحّي الذي يطالب بفرض إجراءات أشد لحماية الصحّة البشريّة، وقطاع الاقتصاد الذي يرفض ذلك لحماية الاقتصاد. وأظهرت ضعف الإمكانيّات الماديّة الإسرائيليّة للتعامل مع الوباء، في نقص الكادر الطبي، ووسائل الوقاية، ونقص منشآت الحجر وسيّارات الإسعاف ووسائل الوقاية والمعدات الخاصّة، ما يعيد للذاكرة عدّة حالات في العقدين المنصرمين، حيث كشفت لجان التحقيق ما بعد الحرب عن ضعف الاستعداد القومي للتعامل مع الطوارئ. كما عرّى الوباء الأزمة المؤسساتيّة التي تضرب هياكل المؤسسات الإسرائيليّة أمام الكورونا.
إضعاف الأمن القومي
يرى البروفسور إفرايم عنبار، مدير معهد القدس للإستراتيجيات والأمن، أنّ الجائحة أضعفت الأمن القومي الإسرائيلي، إذ تعاني العديد من الوحدات في الجيش الآن قصوراً في القوّة البشريّة ولا يعتقد أنّ الانشغال بكورونا سيؤثر على التوجهات الإقليميّة المعاديّة لإسرائيل. ويرى أنّ هذا الوباء حرب على إسرائيل يشبه من عدّة جهات حالة الحرب التي تستخدم فيها أسلحة بيولوجيّة وكيماويّة.
وطبقا لعنبار تحاول الحكومة طمأنة الناس في حال تفشّي الوباء أكثر بتقديم وعود بتدخل الجيش الذي يملك منشآت ومرافق ومعدات كافية للتعامل مع أعداد كبيرة من المرضى، وخبرات إداريّة وتنظيميّة للتعامل مع حالة طوارئ ضخمة، إلّا أنّه تأسس للتعامل مع الزلازل والهجمات الصاروخيّة وليس مع الوباء، حيث سيضعف تدخله حركة المؤسسات المدنية التي تواجه الوباء في الخطوط الأماميّة، ناهيك عن النقص في القوّة البشريّة الذي ستعانيه وحدات الجيش نتيجة إصابات الجنود والضباط بالفيروس وسياسات الحجر.
ويضيف: “في حال تفشّي الوباء ستتأثر قدرات الجيش على الاستجابات السريعة والفعّالة، والتاريخ يقدم لنا عدّة أمثلة عن جيوش تفككت نتيجة الوباء. إلى اللحظة تم تنفيذ تغييرات جديّة وهيكليّة في مجموعة كبيرة من تدريبات الجيش الروتينيّة للتكيف مع الوباء، وخفّضت العمليّات العسكريّة في المناطق ذات الكثافة السكانية في الضفة الغربيّة. كما يمثّل إجراء التباعد الاجتماعي مشكلة في آليّات إدارة الحواجز والمعابر ونقاط التفتيش والتدريبات، ويؤثّر على الروح القتاليّة للجيش ومتانة العلاقات الرفاقيّة بين عناصره”.
وفي حال استثمرت الحكومة مبالغ ضخمة لإحياء الاقتصاد بعد احتواء الوباء، ستتأثّر ميزانيّات الجيش وخططه طويلة. ولا يجد مركز القدس للشؤون العامة بديلاً أمام إسرائيل إلّا التركيز على الاستثمار العلمي في تطوير الاستجابات المتقدمّة للفيروس، لتوكيد دورها كمركز للأبحاث العلميّة يخدم أمن الولايات المتحدة والغرب، كطريق وحيد لضمان التفوّق الإستراتيجي الإسرائيلي بعد جلاء أزمة كورونا.
الاستخبارات العسكرية
يسلّط الباحث زاك دوفمان الضوء على التحوّلات الهيكليّة والعقائديّة في الوحدة 81 الأكثر السريّة في الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة والمسؤولة عن تطوير تكنولوجيا المساندة لعمليّات القتال. ويقول إنه تحت ضغط تفشّي الوباء، تم رفع غطاء السريّة عن هذه الوحدة، في تحوّل كامل لهدف الوحدة من دعم العمليّات العسكريّة والحروب نحو بذل كل ما يلزم لمواجهة وباء كورونا كأكبر مشكلة تهدد العالم الآن، بحسب أحد كبار المسؤولين في الوحدة. ويرى أنه بعد أن أعلن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو حالة الطوارئ لمواجهة العدو الخفي، تم توظيف الأدوات الرقميّة المعقدة لتتبع مسارات المصابين المحتملين، وهذه أوّل مرّة تستخدم فيها هذه الأنظمة على المدنيين.
السلطة الفلسطينيّة وغزّة
الجائحة عززت التعاون والتنسيق الفلسطيني- الإسرائيلي، وأكدت ضرورة وجود سلطة فلسطينيّة قويّة وفعّالة، لأنّ غيابها سيؤدي إلى انتشار المرض في إسرائيل
يتفق معهد دراسات الأمن القومي مع مركز القدس للشؤون العامة على أنّ الجائحة عززت التعاون والتنسيق الفلسطيني- الإسرائيلي، وأكدت ضرورة وجود سلطة فلسطينيّة قويّة وفعّالة، لأنّ غيابها سيؤدي إلى انتشار المرض في إسرائيل، ومن جهة ثانية منع دخول العمّال الفلسطينيين إلى إسرائيل ينذر بانهيار اقتصادي فلسطيني في الضفّة كمقدمة لحالة فوضى، ما يحثّ إسرائيل على مزيد من التعاون مع السلطة الفلسطينيّة لمنع الانهيار والفوضى.
في المقابل يرى “مركز القدس” أنّ القضيّة الفلسطينيّة وضعت جانباً وتعطّل تطبيق خطّة ترامب للسلام، ورغم تصاعد التنسيق مع الفلسطينيين من غير المرجّح أن يثمر ذلك عن تغيّرات جذريّة في السياسة الفلسطينيّة والموقف من الصراع. وبالنسبة لغزّة، من المرجّح في حال تفشّي الوباء أن تذهب “حماس” إلى توجيه الضغط الشعبي في غزّة ضد إسرائيل.
الوضع الإقليمي
يعتقد بعض الخبراء أنّ التركيز على كورونا قد حدّ من تصاعد الأخطار الإقليميّة فرغم الأعداد المنخفضة نسبيّاً للإصابات في منطقة الشرق الأوسط، باستثناء إيران، إلّا أنّ الأعداد مرجحة للتصاعد بسبب اكتظاظ المدن، ووجود ملايين اللاجئين والنازحين. ويختلف معهد دراسات الأمن القومي ومركز القدس للشؤون العامة مع هذا الطرح المتفائل، فعلى الرغم من التغيّرات المحتملة الناجمة عن تفشّي الوباء، إلّا أنّ معظم لاعبي الشرق الأوسط يتعاملون معه على أنّه حالة مؤقتة فقط، بمجرّد انتهائها سيستأنفون السعي خلف مصالحهم. ويريان أنه من المستبعد أن تتغيّر التوجهات السياسيّة المعاديّة لإسرائيل في البيئة الإستراتيجيّة المحيطة فإيران الأكثر تضرراً من الوباء الذي ضربها وهي في أسوأ حالاتها- ظروف اقتصاديّة سالبة مترافقة مع نمو أزمة النفط وثقة من أزمة النفط وثقة منخفضة بالنظام والتعاطي غير الفعّال مع الوباء الذي عمّق أزمة الثقة بين الشعب والنظام.
وعلى المدى البعيد برأيهما ربما تضطر إيران للذهاب إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة من موقف أضعف وتحت سقف أقل، وذلك في ظل تعاظم الفشل المؤسساتي والنظامي والهيكلي الإيراني في إدارة أزمة الوباء وتبعاتها. من جهة ثانية، أبرزت أزمة كورونا ضرورة تنسيق الجهود مع الدول التي أبرمت اتفاقيّات سلام مع إسرائيل مثل الأردن ومصر والسلطة الفلسطينيّة، كما تمهّد هذه الجائحة لمزيد من التطبيع مع الدول السنيّة”.
الصعيد العالمي
وحسب جهات إسرائيلية أيضا يشكّل الوباء تهديداً لمبدأ العولمة، ما يعمّق المسؤوليّة الفرديّة لكل دولة على حدة في التعامل مع الوباء وإنعاش الاقتصاد ما ينذر بتحوّلات هيكليّة في طبيعة النظام العالمي.
وترجح أن تنامي الصراع الصيني الأمريكي، والركود الاقتصادي المتوقع في أمريكا (وأثر كل ذلك على الانتخابات في تهديد فرص ترامب) والخطط الأمريكيّة الجديدة لتخفيض التواجد العسكري في الخارج وخاصّة العراق، يفتح الطريق أمام إيران للوصول أكثر إلى حزب الله وسوريا.
وبرأيها هذه التغيّرات في وضع الولايات المتحدة كقوّة عالميّة واحتمال فشل ترامب في الانتخابات الرئاسية، تمثّل التهديدات الأخطر على الأمن القومي الإسرائيلي. ويرى “مدار” أن الوباء يجتاح إسرائيل في ظل تركيبة معقدة وغير مسبوقة من الأزمات السياسيّة الممتدة بعد انتخابات كنيست ثالثة بدون نتائج حاسمة، ونصف الناخبين يعادون نتنياهو ولا يثقون بنواياه، ناهيك عن العجز في الميزانيّة والتحديّات الأمنيّة المعقّدة.حيث ساهمت الأزمة في مزيد من تعرية طبيعة الدولة، فمن جهة كشفت عن طبيعتها الرأسماليّة الجشعة التي تمثّلت في التوتر الذي شاب قطاعات الصحة والأمن والاقتصاد. وكشفت عن طبيعتها في البيئة الإستراتيجيّة الإقليمية، حيث ورغم تفاقم الأزمة التي تهدد صحّة وسلامة وحياة الأفراد يحتدم النقاش حول الأمن القومي الإستراتيجي وصيانته، كما يحاول الجيش الحفاظ على جاهزيّته الحربيّة ترقبّاً لأيّة أخطار خارجيّة، وبالتالي لم ينخرط بشكل أوسع في مهام مكافحة كورونا على الجبهة الداخليّة، واقتصرت تدخلّاته على النشاطات المذكورة أعلاه.
ومن جهة أخرى كشفت أزمة كورونا عن الطبيعة العنصريّة التوسعيّة، من حيث التمييز بين فلسطينيي الداخل واليهود فيما يتعلّق بالتجهيزات والخدمات الصحيّة وتوزيع مراكز الفرز والفحص، والتمييز ضد العمّال الفلسطينيين من الضفّة العاملين في الداخل من حيث الحقوق الاقتصاديّة والتعاطي معهم في ظل الوباء، والتمييز المشين ضد الأسرى الفلسطينيين مع وصول الوباء للسجون، ناهيك عن استمرار الاحتلال في التوسّع الاستيطاني والاقتحامات وهدم المنازل والاعتقالات رغم تعاظم تفشّي الجائحة.