حبكة القصيدة
في بحثه العلاقةَ بين الزمن والسرد، انكب بول ريكور على العمليات الوسيطة بين تجربة المعيش والخطاب، مستدلا بنموذجي القديس أوغسطين في (اعترافاته) وأرسطو في (فن الشعر) فوجد في «مفهومه عن الحبكة muthos الجواب النقيض لانتشار النفس distentio animi عند أوغسطين» أي التوافق في مقابل التنافر. فما ينبغي على الشاعر أن يُؤْثره دائما هو المحتمل الشعري المقترن بمبدأ الإدهاش الذي يحدثه لدى المتلقي، بدل الممكن غير القابل للتصديق داخل الواقعة التاريخية المتعينة. وقد يغدو حتى المستحيل المقنع، على مستوى المتطلبات الفنية للشعر، أفضل من الأمر الممكن غير المقنع، لكن مع ذلك «يجب عدم البحث عن الممكن والعام خارج تنظيم الأحداث، ما دام هذا الربط نفسه ضروريا أو مُحْتملا». فالقصيدة لا تخلق لدى القارئ توقعات حسب، بل بالأحرى قد تضفي مفاجآتها غير المتوقعة شعورا بالاكتمال لا يستطيع تفسيره إلا على نحو غامض، وقد تكون حتى النهاية المخيبة للآمال مُلائمة لبنية العمل الشعري نفسه.
للقصيدة حبكةٌ خاصة بها، لكنها أكثر تجريدا من الحبكة النثرية، بشكل يلائم بناءها الفني، ويحول دون اضمحلاله داخل السرد. فإذا كانت كتابة السيرة الذاتية نثرا تتقيد، في المجمل، بالبناء الزمني الخطي، الذي يجري على وتيرة التنامي والتسلسل والتطور الحدثي، ويسترجع الحياة الشخصية تبعا لمفهوم التطابق اللوجوني، إلا أن كتابتها شعرا تكون بمثابة سيرورة أكثر من أن نعتبرها ترتيبا زمنيا خطيا وجامدا لأحداث الماضي، أي كتابة عن حياة ليست معطاة ومتاحة، بل هي تمتد إلى جذور الوجود الفردي. وهذا ما يتوافق مع منطق البناء الشعري الذي يؤول ما كان «معطى سلفا» ويترك لعناصره أن تعمل عليه وتعيد تخييله لدرجة يستحيل معها أن تكون الحياة الشخصية هي نفسها استرجاعا وتمثيلا، أو ما تدل عليه من امتلاء وطمأنينة، بقدر ما هي تكون بفعل التحوير والقلب حياة أخرى غيرها مع توحي به من جهل وشك وفراغ وموت.
الشخصي واللاشخصي
منذ أن تهكم شارل بودلير من الرومانسية، وأثر عن رامبو قوله ذائع الصيت: »أنا هو الآخر«، ورافع ستيفان مالارمي من أجل »الاختفاء الخطابي عند الشاعر حتى يترك المبادرة للكلمات«، وأطلق بيسوا تجربة الأنداد، وألمح لويس أراغون إلى ميتافزيقيا ضمير المتكلم المفرد، ثم ما ذكره بول فاليري «أن ثمة هوة» بين الانفعال، والتعبير عنه لدرجة أن يصير في إمكان قوة خفية أن تستحوذ على الشاعر وتجعله قادرا على إنتاج أشياء دالة وغريبة عنه، وضمنها ما يسميه بـ«الانفجار الإيقاعي» بل غير هؤلاء الشعراء من خلال حدوساتهم النظرية وتأملاتهم الموازية، لم يعد من الممكن أن يقتنع المرء بشفافية التعبير عن عاطفة مُغناة أو خاصة، وجدوى قولها شعريا؛ فقد صارت الذات موضع سؤال بشكلٍ حدد مصير الشعر الحديث ووجهه إلى خاصية اللاتَشَخْصُن، على الأقل بالمعنى الذي يفيد بأن هذا الشعر لم يعد يتدفق بالوحدة التي تنشأ بين الشعر والإنسان المعطى كما أراده الرومانسيون، وهذا ما استخلصه هوغو فريدريش من خلال المفارقة التالية: بقدر ما يُكثر الشاعر من قول »أنا«، ينتفي الطابع الشخصي للذات.
لقد أدى الأمر إلى رفض الخطاطة التقليدية للتعبير التي تختزل النص إلى نسخة بسيطة لانفعال الذاتية، وأعاد تعريف الذات المتكلمة، حيث لم تعد تُدْرك بمصطلحات الهوية، ولا يمكن أن تعتبر كـ«أنا أصلي حقيقي» بتعبير كيت هامبورغر في حديثها عن الذات الغنائية. فالمشكلة كما تَمثلها الشعراء منذ قطيعة الحداثة هي أن يكسروا العلاقة التي كانت للقصيدة في ما سبق مع الغناء، وأن ما ينبغي التغني به ليس الذات أو الشخص، بل الكينونة. وقد جسد هذا التحول اشتغالا جديدا للخطاب لن يُظْهره إلا الشعر، ليس باستعمال الضمائر الشخصية كأي خطاب آخر، بل في «حالة الذاتية« التي تتحقق فيه وعبره في آن.
ينبغي أن ننظر إلى الذات بمصطلحات نابعة من داخل الشاعر وهُويته، لأنها لا تتأسس إلا في علاقتها بالخارج الذي يُغيرها (من الغيرية) وبالطريقة التي »تُعبّر« بها عن الـ«أنا» أو عنه في علاقته بغيره. بخلاف الغنائية التقليدية التي تعد بمثابة إسقاط لمشاعر الـ«أنا» وبخلاف نظرية فيليب لوجون، الذي ينظر إليه بوصفه هُوية، لم تعد الذات كحجةٍ تعبر عن نفسها بنفسها على قدر كبير من الامتلاك، أو تسجن نفسها في إطار المطابقة، وإنما هي بالأحرى نتيجة الحوار الذي تحافظ عليه مع غيريتها الخاصة. ومثل هذه الأطروحة هي ما نجد إيميل بنفنيست يدافع عنه في مقالته «الذاتية في اللغة» حيث يحدد «مؤشر الذاتية» بوضوح، ويرى أن الإنسان لا يستطيع أن يتكون باعتباره ذاتا إلا في اللغة وعبرها، لأن اللغة تؤسس وحدها مفهوم «الأنا» في الواقع، في واقعها الذي هو واقع الكينونة. وبالتالي، يطرح التلفظ بوصفه «إنجازا». فالحوار ينشئ الشرط الباني للضمير النحوي، حيث يخضع هذا الضمير لقانون التقاطب، ولا يكون الوعي بالذات ممكنا إلا إذا تحقق عبر التضاد والمغايرة.
ليس ما يهم هو حياة الفرد التي يشعر بها الآخرون كمتواليةٍ من الأحداث، ولا أن تتخذ من اللغة شكْلَ أو وسيطَ حكيٍ استرجاعي لا يحترم بالضرورة النظام الكرونولوجي دائما، فهذا أمرٌ بديهي من وجهة نظر عملية؛ لكن أي الكيفيات البانية التي اتخذها لتمثيل تلك الحياة، التي يزعم أنه يستعيدها في حاضر الكتابة ويرقش بها جسدها النصي؟
من هنا، لا يُفْهم من نفي الطابع الشخصي عن الذات اختفاء الذات نفسها، بل الاختفاء الخطابي للشاعر بتعبير مالارمي. فالقصيدة لم تعد تعبيرا ساذجا عن هموم ذات الشاعر، بل استقلت عن معطى كل ذات سابقة عنها، فليس ثمة من ذاتٍ إلا ما ينتجه النص، ولا من هُوية إلا ما تبتكره ذات الكتابة عبر رهان الغيرية من صور ممكنة لها. فمغامرة الكتابة عن الذات لا تتحقق إلا بانعطافة البحث عن الغير، أي بالبحث عن الهوية من خلال الغيرية، أو من خلال الجهود التي تُبذل للتماهي مع الآخر. وهكذا ينكشف ادعاء العودة إلى الذات والتطابق معها، عن كونه مُجرد ادعاء ومحض وَهْمٍ مشكوكٍ فيه، لأن الفعل السيرذاتي نفسه هو فعل غيرية. وحسب ما يذهب إليه بول ريكور، تتجسد غيرية الذات بوصفها مرحلة ضرورية ولا يمكن تجاهلها لفهم الذات وإدراكها: «الذات عينها كآخر يوحي منذ البداية بأن ذاتية الذات عينها تحتوي ضمنا الغيرية إلى درجة حميمة، حتى إنه لا يعود من الممكن التفكير في الواحدة دون الأخرى».
لن تعود الهُوية مُعْطى ثابتا، بل تصير سيرورة ضدية تنجم عنها هُويات متعددة؛ ففيما تبحث السيرة الذاتية بشكل استرجاعي عن هوية موحدة، يبتكر أنا الشاعر ذوات ممكنة بقدر ما هو ينكتب في الحاضر ويجرب أكثر من عالم ممكن، ولا معنى لهذا الابتكار في غياب الآخر حسب لعبة الغيرية التي تجري في مستويات شتى. إلى الحد الذي يصعب معه العثور على الأنا كوحدة مماثلة بسيطة، لأنه يكون قد تعدد واستحال إلى آخَر غيره. ولهذا، ندرك معنى أن الشعر الحديث، داخل توتره السيرذاتي، أطلق مشروع كتابته لصالح التخييلات اللانهائية التي من خلالها تعيد الذات ابتكار نفسها وتخييل تاريخها المتشظي بالضرورة، وبالتالي يكف الشخصي عن أن يكون شخصيا، ليصير ذلك المشروع مجال الفعالية الشعرية بما تنطوي عليه من تحويل وإزاحة وعطش دائم. وفي هذا المعنى، يكتب جون- ميشيل مولبوا: «يسعى العمل السيرذاتي للقصيدة، في بحثه وعناده، إلى إعادة بناء تكون الفرد (انظروا كيف أصبح هذا الذي أنا) بأقل ما يسعى إلى إظهار كيف أنه مهزوم، منخور بعطشه، ومجوف من الداخل: كيف يخطو إلى المجهول واللاشخصي، أو بمعنى آخر يدخل في بعد «البشر العاديين» حيث نشترك على وجه التحديد في الجهل الذي نحن عليه».
تحويل الكتابة
ليس ما يهم هو حياة الفرد التي يشعر بها الآخرون كمتواليةٍ من الأحداث، ولا أن تتخذ من اللغة شكْلَ أو وسيطَ حكيٍ استرجاعي لا يحترم بالضرورة النظام الكرونولوجي دائما، فهذا أمرٌ بديهي من وجهة نظر عملية؛ لكن أي الكيفيات البانية التي اتخذها لتمثيل تلك الحياة، التي يزعم أنه يستعيدها في حاضر الكتابة ويرقش بها جسدها النصي؟ وهذا الأمر في حد ذاته يستتبع مشكلات أبستيمولوجية تُثار أثناء ممارسة الذات لفعل الكتابة. الكتابة بناءٌ بقدر ما هي إعادة تأويلٍ ذاتي، لأن فعل الكتابة هو فعل وجود لا يتوقف عند تنظيم عناصر العالم داخل البنية النصية، بل يكتسي قيمته من مادية البنية وصيرورتها التي ما تفتأ تتطور من وضع تلفظي إلى آخر غير مستقل عن أنا الكتابة بوصفه بناء نصيا. فالكتابة السيرذاتية، تبعا لذلك، تمثل إعادة بناءٍ من منطلق الذاكرة، ومن عناصر الحياة وتجاربها المتباينة في الحكي المنظم والمنسجم إلى حد ما، عدا عن انحرافات الواقع (استيهامات، أحلام) التي تتخللها. ألم يعترف لوجون نفسه بأن السيرة الذاتية «تترك مكانا واسعا للاستيهام»؟
لكن السيرة الشعرية تقع خارج التصور اللوجوني وتقطع معه، بما هي تخييل وإعادة بناءٍ ذاتي، وعبرها تحضر اللغة بوصفها طِرْسا للتعبير عن الذات واكتشاف الذات. ليست ذات السيرة الذاتية هي الأنا، بل الكتابة ذاتها. وإذا كانت السيرة الذاتية سوى تَخْييلٍ للذات، فإن هذا التخييل هو مُهم للغاية؛ ليس بالقياس إلى صدق ما يكتبه الأنا السيرذاتي وحرصه على التمثيل الوقائعي الوفي للأحداث، وإنما إلى الكيفية التي يستطيع بها تمثيل الذات وإعادة بنائها، سواء في صراعها مع الحقيقة، أو في بحثها عن الهوية من خلال فعل الغيرية.
يقودنا هذا الكلام إلى استخلاص نتيجة أساسية؛ وهي أن الكتابة الشعرية عن طريق استثمارها للبعد السيرذاتي، إنما تبني محكي الحياة وتعيد بناءه وفق قوانينها الخاصة، بما هي ممارسة نوعية ومفتوحة تخترقها أشكال من الابتكار والتحول والتشطيب والمحو واللعب. وهذا ما يدل عليه مفهوم التحويل الذي يشغله هنري ميشونيك من داخل شعريته القائمة على الإيقاع، بقوله: «إن ذات القصيدة هو هذا الابتكار، فإنه ليس ثمة من عملٍ إلا عبر الذات، ولا من ذاتٍ إلا عبر العمل». يربط ميشونيك هذا الفعل بمبدأ التذويت، وتفريد أشكال الحياة إلى أشكال من اللغة – تحويل الكتابة، تحويل القراءة، تحويل النظر والفهم، ولا يمكن أن يكون جماع ذلك إلا داخل ملحمية اللغة التي تتفلت من الدليل، وداخل الإيقاع، بما هو تنظيمٌ لحركة الكلام في اللغة التي تحولها هذه الذات التي نبحث عنها، مثلما هي تُحول نفسها بنفسها.
يبني «أنا» الشاعر سيرته ويضيف إليها، ويستثمرها كمشروع داخل خطابه الخاص عبر فعالية الـمُخيلة بما تقود إليه من استعارة ولعب ومحو واختلاف، وعلى نحوٍ مُضاعَفٍ بالنسبة إلى وجوده في حاضر الكتابة. فالمرجعية الاستعارية- التحويلية في الشعر تنقض المرجعية الإحالية – الوثوقية وتلغي فاعليتها على قدر الإمكان، وتبدو اللغة مُـحْتفى بها لذاتها على حساب وظيفة الخطاب اليومي الذي يتحول لصالح ما يمكن أن يجريه الشعر كنشاط تخيلي على الواقع من آثار لا يمكن أن يسلم منها في المدى المنظور.
كاتب مغربي
الشعر ليس أداة تشغل أو وسية تؤدي دورا توظيفيا…إنه كيان لا ينبثق عن تنظير ليتحول إلى كيان.. بل هو كيان يشعل التنظيرات ويتحول إلى معطى خارجها.