لكل رحلة كشف وبحث آلية وتصور وافتراض لأنها رحلة أبدية لا تخلو من المقامرة والمخاطرة، لأنها تخوض التجريب بالشكل والمضمون والفكر والأدوات وعملية انزياح وإزاحة للعرف الثقافي والفلسفي والفني.
عوالم وتكوينات وطلاسم وسحريات مكي عمران لا تشبه بعضها بعضا، إلا أنها تعيش اللحظة الزمنية نفسها في ذهنه ومخيّاله، فهي حرة في سلوكها وطقوسها وفطريتها وفهمها للحياة، وتتخذ الشكل والمنطق والحياة التي تناسبها وتجد نشوتها وشغفها فيها، فلا قوة تقوض حياتها حتى فرشاة مكي عمران غدت مهادنة لها في الشكل واللون والفضاء والحجم، الذي تبغيه داخل إطار اللوحة، فهذا الانسجام والتوّحد بين الفنان، وهو في حالة انصهار تام مع مخلوقاته، وأحيانا قد تغدو مخلقة لأفكاره بصفته فنانا يعيش حالة اللاوعي والهذيان ليمارس طقوسه في الخلق والصنع، وكتابة نصوصه على خاماته في رحلته التي أقصت كل المرويات واليقينيات والتابوهات، لتتحرى بعقلانية وتبحث وتحقق في الأصول والجذور وتلغي قوانين الجاذبية، محلقة في هذا العالم الفسيح، وتقرأ بدهشة ما تركه السلف من قصص وحكايات وأثر وثقافات.
لا شك في أن محاولة التحول من العمل الفني إلى الأثر الفني، هي محاولة تقع ضمن سياق التجريب (الفنان الحديث بوصفة باحثاً لاكتشاف قوانين تحكم أشكاله الفنية، ولهذا فإن الفن البدائي الذي أثر في أسلوب الفن الحديث، كان دائماً مهيمناً عن طريق الرمز الذي يقرر تركيب أي تكوين للعمل الفني، وبالنسبة لأسلوب الفن الحديث غالبا ما يكون حراً وذاتياً) لذا تقع تجربة الفنان مكي الخفاجي تحت هذه اليافطة والعنونة، فهو يحاول أن يبسط التكوينات والألوان، ويضفي عليها سمة العفوية والفطرة شكلا ومضمونا ورمزا، لتحاكي أخيلته وأفكاره ومقاصده، وتثير أسئلة وجودية لتخفف عنه زخم الاحتدام النفسي والفكري ووطئهما عليه، وكما وقع الإنسان منذ القدم تحت الضغط الوجودي الذي تعرض له منذ الأزل من القلق، فليست لديه خيارات إلا أن يعيد الأشكال والخلق والموجودات إلى صورتها الأولية، وكيف قاربها الإنسان البدائي، أو ما جاء في سفر الحضارات القديمة المتعاقبة (إن التوسع الفرنسي في افريقيا أعطى فرصة كبيرة لبيكاسو) لأن يكشف عن أسرار الفن الافريقي، وأن أسلوب الفنان البدائي والحديث متشابهان في تحويل الأشكال الطبيعية إلى أشكال معمارية مجردة، وما جذب الفنان بيكاسو لأسلوب الفن الزنجي هو بساطة أشكاله وقلة السرد القصصي واحتواؤه القوى السحرية).إن استحضار كل القيّم من رموز وقصص وأساطير وميثولوجيا في رسومات مكي عمران واستعراضها على خاماته في أسلوب ينتمي إلى المدرسة المستقبلية والتجريدية والتجريدية التعبيرية، ما هي إلا إحالات ومحاولات فكّ الاشتباك الفكري للإنسان منذ بدء الخليقة (يعبر الفنان التجريدي عن نفسه بطريقة لم يستطع الفن البصري التمثيلي القيام بها، لأن التجريد بالنسبة له يمس غرائزه وذاته الداخلية، مثلما يعد سبيلا لفهم نفسه أكثر. أما بالنسبة للمشاهد فإن الفن التجريدي طريقة رسم تناسب التعبير عن المعاني الذاتية التي تتجاوز الواقع وتصور المفاهيم غير الملموسة. ونقل المشاعر والعواطف التي لا يعبر عنها بالكلمات ولا بالصور التمثيلية. وفي كل الأحوال يتطلب التجريد الكثير من الإبداع ومن أعمال الخيال).
الرائي لاشتغالات مكي عمران، وأخص بالذكر هنا أعماله الحديثة، تجدها تدور في هذا الفلك الفني وتصبح اتجاها فنيا لديه من خلال اعتماده على أشكال بانورامية (رموز وأيقونات وطلاسم وأشباح من طيور وحيوانات وبشر وخطوط وتمائم وتعوذيات وأقنعة) في إخراجها وتكويناتها وألوانها وتعددها وتكرارها، وتتخذ من الحركة الدائرية من الأعلى إلى الأسفل على شكل سلم أو هرم وبحركة الأشكال وتمثّلها على السطح التصويري بكل الاتجاهات، وملء كل فراغات فضاء اللوحة دون ترك أي مساحة خالية من التكوينات والألوان، هي تقنية فنية يعتمدها لتفصح عن غاية جمالية وتعبيرية، ولتؤكد استحضار التاريخ والزمن وديمومة الحياة، فإن الحركة الدائرية هنا بمثابة تمثيل لسيرورة الحياة وتجددها واستمراريتها بشكلها المخلوق والغامض، أو الظاهر منها، وخلق طقس روحي وديني، بما ينسجم مع المعتقد الأسطوري والميثولوجي للإنسان البدائي على مختلف عصوره ومختلف مراحل تطوره ونشأته، واللجوء إلى الأجواء السحرية والدينية والأسطورية، لتبعث في روحه الخلود والبعث والولادة والأمل (لأهمية الطيور من خلال تتبع تأثيرها في قدماء المصريين منذ الولادة وحتى الموت. كانوا يعتقدون أن كل أشكال الحياة خرجت من بيضة يرمز لها الرحم، ممثلة في المعرض ببيضة نعامة قديمة رائعة). في نهاية الحياة، تم دفنهم في تابوت، وكان يسمى أيضا بيضة، ما أدى إلى إنشاء دورة لا تنتهي من الحياة والموت والولادة بناءً على صور الطيور؛ وأن ظهور روح المتوفى كطائر برأس إنسان. يمثل التمثال المرسوم الدقيق لمثل هذا الطائر في المعرض سعي الفرد للتواصل الأبدي مع عالم الأحياء. اتخذت العديد من الآلهة شكل الطيور، ربما بسبب قدرتها الخارقة على التحليق في السماء واتباع مسار الشمس الواهبة للحياة.
توظيف الرموز الفرعونية ووادي الرافدين وطوطميات الشعوب الافريقية والآسيوية والأمريكية والأسترالية ولكل شيء بدئي ومحاكاة عقائدها وطقوسها وأعرافها ودياناتها هي إحالات غائية لاسترجاع فني قد أغوت الفنان لتتماهى مع ذائقته وأسئلته وما يختلج في نفسه من هموم.
إن توظيف بعض الألوان دون غيرها في جداريات الفنان وسيادة لون على حساب ألوان أخرى كمنظر طاغ على المشهد الشكلي في أغلب لوحاته، لتعطي شارات للمتلقي بأن النص المشيّد الذي تشاهده ما هو إلا مخيال يجسم حجم الهوس والقلق واستحضار الذاكرة لديه، وهي غاية جمالية قبل أن تكون فكرية ولتعطيه شكلا يتماه مع مفهوم الفن الجداري والبانورامي المعمول عبر الفن القديم، خاصة اللون البني الذي يميل الى اللون البرتقالي مع توظيف اللون الأبيض والأسود والرمادي والأزرق لتحافظ الرموز على شكلها وكينونتها ودلالاتها الرمزية كعقائد وأديان وأعراف، كما جاءت في سياق الفنون القديمة.في عالم محتدم من المقدسات الأرضية والسماوية والافتراضية يخلق مكي عمران ألواحه التشكيلية بافتراضات أخرى ليصنع له مساحة من التفكر والتصور هربا من الأسئلة التي تتصارع في فكره، والتي لم تلبِ الأجوبة التي وضعتها الأرض والسماء، هذه الحيرة والقلق الذي ينتابه كواحد من غالبية ليست بالقليلة التي تبحث عن سؤال وجودي تاريخي لم تصل الاجابات عنه إلى حالة اليقين. ما بين الأسطورة والخرافة والنصوص المقدسة والعقلانية يصبح الأمر أكثر عسرا على المثقف وأكثر قلقا ويصبح الإنسان محقاً للتفكير بالمخاوف التي تداهم حياته وفكره ووجوده. فلا ضير على الفنان مكي عمران، كمن سبقه، أن يخوض الغمار بالتصور والحدس والمخيّال للكشف أو البحث عن ماهية هذا العالم المليّء بالأسرار والغموض والحقائق الغائبة، فخلق الفنان عوالم وطقوس وكائنات في مخيّاله وإطلاق العنان لأدواته الفنية لتفتح هذه الطلاسم والطوطميات بكل حرية في رحلة فكرية وجنونية كرحلة كلكامش لعلّه يجد عشبته ليستقر وتتبدد مخاوفه وليشعر بالاطمئنان.
إن الخروج عن النصوص والقصص والروايات والأثر التاريخي والثقافي السائد لكتابة نص آخر أكثر تعقيدا بعد أن تنتقل القدسية إلى كل شيء لتتعارف عليه الجماعات، فيصبح الطائر وكبير القبيلة والمرأة التي يتدلى من شفتها طبق ذهبي وعشبة الخشخاش والعنب والرمان والنسر وفرس النهر والطوطم لتغدو مقدسة عند الأفراد، ومن يحاول أن يلمسها أو يأكلها أو يشتمها أو من لم يذبح لها القرابين ويبتهل لها وإليها، شخص ملعون توجب عقابه وتقع عليه لعنة المقدس، ولغرض النجاة من عقاب الآلهة الشامانية، وحسب مسلّة مكي عمران (جداريات لوحاته ) عليه أن لا يسأل أو يحاول فكّ رموز مسلاته وأيقوناته التي تركها على جدار مخيلته فما على المتلقي هو المشاهدة والإبحار في سحرياته ومخلوقاته العجيبة التي ألبسها اللون البني، لكي يعطيها سمة القدسية والتمجيد والهيبة والشد البصري والانبهار والتفكّه، وهي محاكاة فانتازية وفك شيفرات الرموز التي جاءت بالأثر الحضاري للشعوب.إن الوقوف مليّا أمام جدارياته وعوالمه بدهشة الخلق والتصوير والتلوين وسباحة مخلوقاته وأشكاله الهجينة على السطح التصويري كأنها أجرام وكواكب ومخلوقات تتحرك في السماء أمام مرآى ومسمع مكي عمران، فأخذ ينظم حركتها دون تقيّيدها على الفضاء اللوني والشكلي، ودون رسم مسارات للضوء والظل أو تقنين وقوننة للعناصر الفنية والشكلية والمعرفية في لحظة تجسيد وحداته وتكويناته على السطح البصري، وأيضا لا بد من الاشارة إلى غياب البعد المنظوري فيها لتكون بكليّتها محاكية لذهنية المشاهد ودون توظيف لآلية الضوء والظل. ولا بد من ذكر أنه ليس هناك مركز أو هامش في لوحات مكي عمران لكي يحقق مبدأ الدوران التاريخي ولإيجاد إيقاع موسيقي من خلال هذه الحركة بسلم هرموني متناسق في نغماته.
إن توظيف الرموز الفرعونية ووادي الرافدين وطوطميات الشعوب الافريقية والآسيوية والأمريكية والأسترالية ولكل شيء بدئي ومحاكاة عقائدها وطقوسها وأعرافها ودياناتها هي إحالات غائية لاسترجاع فني قد أغوت الفنان لتتماهى مع ذائقته وأسئلته وما يختلج في نفسه من هموم. تبدو لوحات أو جداريات مكي عمران في ماهيتها توثيقا وقراءة جديدة بأسلوب فني وتوثيق للتاريخ الإنساني من عصور ما قبل الحضارات إلى ما بعده.إن نكوص الإنسان في عصر الحداثة وما بعدها وخذلانه تجعله يعود مقصيا للجذور والأصول والبدائية فقد يجد ضالته هناك ليشعر قليلا بالاستقرار والطمأنينة والسكون مؤقتا، كي يستعيد نفسه أو يجد لنفسه فرصة على قبول كل تناقضات هذا العالم المجنون .
كاتب عراقي