تاريخانية الأدب العربي

حجم الخط
7

من أجل مُساءلة الأدب، في صيرورة تواصلية دائمة، لابد أن نعود إلى تاريخ المعرفة وإلى مراحلها وتطوراتها، حيث إن التاريخانية، حسب المفكر والمؤرخ عبد الله العروي، تسيج امتدادات الدرس الأدبي في الثقافة الإنسانية. فما من حديث عن ظاهرة أدبية إلا واندغمت بهذا الشرط التاريخي، الذي يرسم حدودا زمنية للقول والكلام، كاشفا بذلك عن أهم إبدالاتها وجدواها.
فعلى امتداد ما يزيد عن خمسين سنة لكتاب «الأيديولوجية العربية المعاصرة»، الذي أقر فيه العروي بأن المناهج العلمية، التي عولج بها الأدب العربي، لا تقوم لها قائمة من دون تاريخ الأفكار، ليأتي بعد ذلك كتابه «السنّة والإصلاح» مجيبا عن تساؤلات ساخنة الوطيس متعلقة بالانتماء والهوية والدين والتاريخ والأدب. فالمُساءلة حسب عبد الفتاح كيليطو، في هذا الكتاب، ترى أن البحث عن جذور انتمائها الشرقي، أفضى بها إلى الكشف عن جدوى التنزيل والوحي والسنّة في حياة الأفراد والأمم. على اعتبارها جميعا، عناصر تبوصل الوجود الذي عرفه الإنسان في الشرق، منذ نزول الوحي في شبه جزيرة العرب. فأيّا كانت الأسباب والمسببات، التي جعلت من هذه المرأة موضوع كتاب «السنّة والإصلاح» عند العروي، فإن لهذه العلاقة امتدادات جوهرية في تاريخ مصادر الأدب العربي، وعلى قبسها سار المؤلف، ليجعل للمرأة مكانة في إنتاج المعرفة الأدبية والترويج لها، لأن المخاطب في أمهات المصادر المعرفية لتاريخ الأدب العربي، يكون جنسا ذكرا.


وفي هذا المضمار نجد، على سبيل المثال لا الحصر: خطابات العبدري، رحلات ابن بطوطة، تساؤلات حي بن يقظان، مقامات الحريري والزمخشري، باستثناء شهرزاد في حكايات «ألف ليلة وليلة»، حيث تكون الأنثى محركة لعجلة السرد في هذه المحكيات، فبهذا سلك عبد الله العروي طريقا جديدا في معالجة الظاهرة الأدبية، بما هي موروث إنساني يحافظ على الكينونة، ويتشرب مبادئ العقيدة، وأخيرا يتشكل من خلالها وعي بالوجود والكون.
إن السعي وراء اكتشاف دور الأدب في بناء الوعي بالماضي واستشراف المستقبل، وعلاقته بالآخر، قد يخرج عن دائرة المعرفة المنهجية بأصول الثوابت في العقيدة والدين الحنيف والتاريخ. من هذا المبتغى تجيء تاريخانية عبد الله العروي، مشفوعة بالسؤال التاريخي؛ لتجد صداها يتردد بشكل منتظم في محكياته الروائية بدءا بـ»الغربة» و»اليتيم»، وذلك من خلال موقفين تتحقق فيهما آمال المغاربة بُعيد الاستقلال، ويسيج هذه التاريخانية بسيرة إدريس الذهنية في روايته «أوراق»، التي كان ينظر فيها إدريس إلى أوراقه، وهي مجموعة من نصوص، حسب عبد الله العروي، نشرت وقرئت ونوقشت منذ سنين. ومنه، يتشكل عند الكاتب وعي جديد بالأدب وأهميته في الحياة، بما هو، لا يقف عند حدود مشروع يواكبه العروي بالبحث الأكاديمي الرصين، وفي رحاب كلية الآداب في جامعة محمد الخامس في الرباط يزكيه بجلساته العلمية، وإنما هو منعطف نحو إعادة بناء الذات، العالمة والمؤرخة، في علاقتها بالآخر، لا على مستوى الهوية وحسب، بل على مستوى الانتماء العقدي والديني والتاريخي والجغرافي.
لم تتحدد الرؤية الجديدة للأدب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، من خلال موقف المفكر والمؤرخ عبد الله العروي من الثقافة والفكر، إلا في علاقتها، كما هو معروف ومتداول، بالشرط التاريخي. فبالعودة إلى فكر فلاسفة الأنوار في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر، وما أحدثه من ثورات هزت البشرية، وما أعقبها من حملات تبشيرية وعسكرية؛ كحملة نابليون بونابرت على مصر؛ فإن هذه الأحداث وغيرها مهدت إلى ظهور مناهج تاريخية حديثة، تناولت السيرورة الأدبية في مختلف المشارب المعرفية الإنسانية، حيث أصبح الدرس التاريخي يغلف الدرس الأدبي. خطان متوازيان، فبهذا المنظور الشامل لم تسلم آداب شبه جزيرة العرب من هذا التحديث الشامل لتناول الظواهر الأدبية، حيث تم ترتيب العلاقة التي تربط بين عناصر الثالوث المعرفي؛ الباحث والمعرفة والقارئ.

الأدب، سواء كان أمويا أو عباسيا أو أندلسيا، أو حتى أدبا معاصرا، لن يفارق هذه الحياة التي اقتنع بها هذا الأديب، أو هذا الشاعر. فعندما نعشق الحياة نذهب إلى السينما، كجنس أدبي تصويري

لم يستطع الدرس الأدبي، في غضون ذلك، أن يتخلص من تاريخانية كارل بوبر، بما أرسى من دعائم النظرة التاريخية للأدب، من زاوية تفاعلية مثمرة، حيث يظهر المؤرخ العضوي مفسرا لسقطات وهِنات تاريخية سابقة، تعتبر مفاصل رؤية جديدة للماضي والحاضر والمستقبل. وما كان للأدب العربي إلا أن يتبنى هذا الدور الجديد الذي يحظى به المؤرخ في الثقافة العالمية الحديثة، وبهذا يكون كتاب «تاريخ الأدب العربي» للمستشرق الألماني كارل بروكلمان، قد شرعن العبور الآمن بين التاريخ والأدب. وعلى خطاه، جاء كتاب الباحث اللبناني حنا الفاخوري، حاملا العنوانَ نفسَه ـ أي تاريخ الأدب العربي. وفي هذا الصدد، يقول الكاتب في مقدمة الطبعة الثانية عشرة: «أما طريقتنا فهي قائمة على مزج التاريخ الثابت، بالتحليل الواسع، وتبويب الأدب بالنظر إلى فنونه العالمية، وبذلك يكون الفاخوري قد أسدى خدمة جليلة للمكتبة العربية، وأغناها بثوابتَ وأصول معرفية حقيقية، انطلاقا من العصر الجاهلي، فالأموي مرورا بالعباسي إلى حدود عصر النهضة مع البارودي وجورجي زيدان.
أمن الممكن أن نطرح سؤالا عن جدوى هذه المغامرة، التي أقدم عليها الفاخوري، فثقافة السؤال ذاهبة نحو تأصيل الأصول، فمن دون الهوية الثقافية والتاريخية، التي تؤسس لمبدأ التنوع، كيف سيصير الأدب العربي مستقبلا؟ في تاريخ الأدب العربي ثمة ظواهر أدبية، تشي بقدرة الشاعر الجاهلي على أن يكون مطبوعا بالشعر. فهو لا يجيل فيه النظر، وإنما يخرج الشعر منساقا وراء سليقة لغوية موسيقية، تماشيا والسيرورة القرآنية، بما هي قطعت الصلة بالحياة الوثنية، كحدث تاريخي كان يعيشه الشاعر قبل بزوغ فجر الإسلام، ففضلا عن ذلك، فجّر جابر عصفور، في كتابه «غواية التراث» عن سلسلة «كتاب العربي»، ينابيع التأمل التاريخي في هذه الظواهر الأدبية، التي طرّزت الأدب العربي، حيث أكد على أن المعلقات والمذهبات السبع، التي كانت تعلق على أستار الكعبة، لا تدرك مقاصدها الفنية والاجتماعية والتاريخية، إلا في ارتباطها الجامد بالشرط التاريخي، الذي أفرز لنا شعراء عظماء، استطاعوا أن يؤرخوا أحداثا ظلت موشومة في الذاكرة العربية على امتداد الزمن. فمن جهة أخرى، كان السَّدى النغمي، الذي يخيط لحمة كلام الوحي، نابعا من بلاغة أرقت البلاغيين. ومنه لا ضير أن نقول: إن الوحي تحدى موسيقية الأذن الجاهلية؛ محققا إبدالا خطيرا في البناء الثقافي للإنسان العربي، فمقصدية الأدب أن تجعل الإنسان في بؤرة الحياة، فاعلا في التاريخ، قادرا على تجاوز الأخطاء، متواصلا أبدا؛ لذا فهو يعيش المد والجزر في أرخبيلات معرفية عائمة.
فالأدب، سواء كان أمويا أو عباسيا أو أندلسيا، أو حتى أدبا معاصرا، لن يفارق هذه الحياة التي اقتنع بها هذا الأديب، أو هذا الشاعر. فعندما نعشق الحياة نذهب إلى السينما، كجنس أدبي تصويري، حسب جلال الحكماوي. خطان متوازيان، ففي صلب السينما، التي هي عبارة عن مجازات واستعارات خارجة عن النص، توجد بذرة حياة الأدب، وإلى جانبها تنمو شجرة التاريخ، كإطار يسيج هذه المعرفة. في كتاب «حديث الأربعاء» لطه حسين، أشار عميد الأدب العربي إلى حدث ظل راسخا في تاريخ الشعر والشعراء؛ فعمر بن أبي ربيعة عـُرف، في الشعر الأموي بالغزل، فانفتح شعره على خبايا أسرار حياة المرأة الحجازية. فبكثرة ما تغزل الشاعر بالمرأة، وافتضح أمرها، وانتهك حرماتها، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بسفك دمه؛ احتراما لجسد المرأة الحجازية وحمايته من انتهاكات قد تخدش عفته وطهره بسوء. ففضلا عن أنه حدث ذو ميسم ثقافي؛ إلا أنه لا يدرك كنهه إلا في سياقه التاريخي الممتد عبر الزمن.
وأخيرا، يبقى السؤال الملحاحُ معلقا، هل يمكننا العيش من دون أدب؟ أو بصيغة أخرى، أيستطيع المرء أن يمر يوم واحد من حياته، من دون سرد أو وصف أو حوار؟ وفي ضوء المعرفة التاريخانية، يكتمل صرح الوجود الفعلي للإنسان، وبالتالي يستطيع أن يميز بين الوجود الثقافي والوجود التاريخي. علاوة على ذلك، فما من تغيير قد يمس الجوهر الإنساني مستقبلا، إلا ويعرج على ذينك القطبين الأسنيين في بناء الحاضر، والتطلع من خلالهما إلى المستقبل.

٭ كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أحمد:

    “فعمر بن أبي ربيعة عـُرف، في الشعر الأموي بالغزل، فانفتح شعره على خبايا أسرار حياة المرأة الحجازية. فبكثرة ما تغزل الشاعر بالمرأة، وافتضح أمرها، وانتهك حرماتها، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بسفك دمه”؛ هذا الكلام غير صحيح يا سي رشيد! الرسول صلى الله عليه وسلم أهدر دم كعب بن زهير بسبب هجائياته الجارحة للمسلمين، وقد تاب الشاعر وأسلم واستقبله الرسول صلي الله عليه وسلم،ولكعب قصيدته المشهورة (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول..) .أما عمر بن أبي ربيعة فقد ولد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من عشر سنوات(11-93 هـ)، ولا أظن طه حسين قد أخطأ هذا الخطأ ولعل تلميذه جابر هو الذي وقع فيه.

  2. يقول أحمد:

    تأكيد: ولد عمر بن أبي ربيعة سنة 23 هجرية وتوفي 93 هجرية.

  3. يقول أبو اليسر السوري:

    أنت نفسك قلت “عمر بن أبي ربيعة عـُرف، في الشعر الأموي بالغزل، فانفتح شعره على خبايا أسرار حياة المرأة الحجازية. فبكثرة ما تغزل الشاعر بالمرأة، وافتضح أمرها، وانتهك حرماتها، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بسفك دمه” وعاش عمر في عهد عبد الملك بن مروان، والعهد الأموي بدأ عام 41 هـ، فكيف تقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بسفك دمه؟

    1. يقول مواطن تونسي:

      يعودون الى ما كتب المستشرق من دون تحقيق أو تدقيق لأنهم يريدون التخلص من الماضي فعندما تكون قوياً كلهم وراءك وعندما تكون ضعيفا يتركونك فكر انهى مجتمعات وحضارات فوق هذه الأرض المسماة عربية

  4. يقول بشير سعد:

    أفكار المقال قابلة للنقاش، لكن من الناحية التاريخية، و هي محور المقالة، كيف يستقيم أمر الرسول بسفك دم عمر بن أبي ربيعة، وقد ولد هذا الشاعر بعد وفاة الرسول بأزيد من عشر سنوات؟؟

  5. يقول ملواني المراكشي:

    يقول طه حسين في كتابه ” حديث الاربعاء ” ص 298 الطبعة 12 مايلي :
    ” حتى ان المسلمين من عرض على النبي ( ص) اان يستعين في بعض غزواته باحباش ابن ربيعة . وكان عبد الله بن ابي ربيعة ابو شاعرنا من وجوه قريش …”
    فمن المحتمل ان ما ذهب اليه صاحب المقال ان يكون صحيحا … خصوصا اذا تضاربت الروايات بخصوص زمن ولادة عمر بن ابي ربيعة
    والله اعلم

  6. يقول ملواني المراكشي:

    وبالضبط ، في الجزء الاول من كتاب ” حديث الاربعاء “

إشترك في قائمتنا البريدية