تسعى كارين أرمسترونغ في كتابها «تاريخ الأسطورة» – الصادر عام 2008 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ترجمة وجيه قانصو – إلى تقديم تعريف موجز ومثير عن الأسطورة، عبر عدد من المستويات التاريخية ذات الطابع التعاقبي لتكون أقرب إلى المفاصل في اكتناه المفهوم، وتطوره في الوعي الإنساني. ولعل ما يميز الكتاب قدرته على أن يقدم فهماً عميقاً لتكوّن الأسطورة، ودلالاتها في إطار علمي مكثف، حيث إن هذا المفهوم المعقد والشائك يكاد يتحول إلى نموذج معرفي، يسهل تتبعه من لدن القارئ، الذي يتلمس الصيغ المتقدمة أو المراحل التي تشكلت فيها الأسطورة، لتمسي ممارسة إنسانية متجذرة بعد مراحل طويلة من التعديل المستمر تبعاً لتطور الإنسان.
الحاجة للأسطورة
يبدأ الكتاب بسؤال معرفي حول الهدف من الأسطورة ووجودها، ونعني تلك الماهية، فالأسطورة قديمة قدم الإنسان، بل إنها تسبق ظهور الإنسان العاقل Homo sapiens وبذلك فهي ثقافة الإنسان بالمطلق الكلي، فالإنسان غالباً ما يقع في أسر الغامض، وغير المفسر عند مواجهة المصاعب، فينتج الأسى والحزن، ولعل هذا ما دفعه، منذ أن وجد، إلى اختراع القصص بغية التفسير، مع وجود ذلك التقاطع الجدلي مع الدين، ولاسيما لدى الحضارات القديمة.
الأسطورة ببساطة نسخة غير مكتملة، تعكس وعي وتفكير الكائنات البشرية الفانية، غير أن أهم ما يميزها إمكانية المشاركة، كما أنها تدفع البشر إلى تغيير أنظمة سلوكهم، وقيمهم من أجل تذليل فهم ما يبدو عصياً على التفسير، كما أنها تعطينا أملاً جديداً كي نستمر في الحياة، كما تشير الكاتبة؛ ولذلك فإن الأسطورة تحدد ذلك التحول الذي يميز توجهاتنا، حيث ترى مؤلفة الكتاب أن الأسطورة ليست مجرد قصة تتلى في أماكن وأوضاع دنيوية، أو تتضمن معارف مقدسة، فمعرفتها لا تتأتى من جعلها ضمن مناخ مستقل عن التجربة الدنيوية، ولكن ينبغي فهمها في سياق التحول الروحي، فنحن نحتاجها حين نتحدث عن مغزى النهايات.
يذكر الكتاب أن معظم الثقافات لديها التّصور عينه بخصوص الجنة المفقودة، حيث كان الإنسان يعيش في كنف الإله في حالة انسجام، ليفقد بعد ذلك الحظوة والوئام، وينتقل إلى الأرض ليواجه الغامض، حينها ينظر إلى الطبيعة والموجودات على أنها موضوعات للعبادة، أو عبارة عن تجليات القوة الخفية ـ كما يوضح الكتاب- إذ يمكن رؤية حضورها المؤثر في نواحي الطبيعة كافة، ومنه السماء التي ترمز إلى التعالي والأزلية، بالإضافة إلى تصور الإله، كما نجد في بعض الأساطير لدى اليونانيين والكنعانيين، فمعنى السماء يرتبط بتوق الإنسان إلى التعالي الذي يمثل سمواً على الدنيوي أو الطارئ في معظم الديانات.
تتبع الكاتبة مراحل تطور الأسطورة بالتوازي مع تطور الإنسان، فتعود إلى الصيد الذي يتعلق بالأسطوري، خاصة تمثّل الطبيعة التي تعدّ رمزاً للقوة، ومصدر الحياة، فينبغي التعامل معها بوصفها موضوعاً مقدساً يستحق نوعاً من التقدير والاحترام؛ بما في ذلك وجود الكائنات الحية التي تنتشر في الأرض، فعلمية الصيد تنهض على تقدير وجود الكائنات الحية، على الرغم من أن عملية الصيد بدت كفعل استلاب، ومع ذلك ينبغي تقديم المنح والعطاء، ومن هذا المنطلق يبدو أن الإنسان في تلك الحقبة كان أكثر وعياً بفهم هذه العلاقة، وربما يكاد يكون متقدماً على الإنسان الحديث، الذي يمارس استلاباً غير محدود للطبيعة، بدون تقدير، فإنسان تلك الحقبة كان يُعيد بعد كل صيد أجزاء من صيده إلى الأرض بغية الشكر، وليمنحها الحياة من جديد.
يتناول الفصل الثالث تكوّن الأسطورة في المجتمعات الزراعية، التي تعدّ نتاج تعالق البشر مع الأرض، حيث كان ينظر لها بوصفها تحمل الطاقة، وتنطوي على نزعة إلهية، فهي رحم أمومي، لذلك برزت طقوس معينة للزراعة، وتنهض على فكرة قوامها بأنك كي تأخذ يجب عليك أن تعطي، وهنا نقع على ملحوظتين بخصوص تكون الأسطورة تبعاً للتقدم الإنساني، فضلاً عن توفر نسق بنيوي يرى بأن التعامل مع الموجودات، يقوم على نظام تبادلي يراعي فعل التوازن، فلا جرم في أن تظهر في الأسطورة نزعة تقدير الطابع الجنسي، إذ ينظر إلى المطر بوصفه عملية جماع مع الأرض، أو إنه البذور، في حين أن المحراث يرمز إلى العضو الذكري، ومن هنا يمكن تفسير الكثير من أساطير الصين واليابان والشرق الأوسط، كونها تنهض على تقدير عميق للفعل الجنسي بوصفه انعكاساً لآلية الوجود، وتكوّن الحياة، ولكن الفصل سرعان ما ينتقل إلى تمثّل المرأة، وتقاطعها مع المفاهيم العميقة للأرض، لتمسي المرأة قوة مؤثرة متحكمة، فتؤطرها الأساطير بصيغ متعالية، يظهر تفوقها وجبورتها وقسوتها، كما قدرتها على العقاب، كما تمثلها أسطورة «إيرشكيغال» وعقاب «إنانا» في بلاد ما بين النهرين، أو أسطورة «ديمتير» وابنتها «بيرسيفيني» اليونانية، وغيرها من الأساطير، غير أن الأسطورة سرعان ما تعرضت لتحول مع رغبة الإنسان بالتعويض عن ضعفه أو محدودية قوته الفيزيائية، فعمل على تطوير مهاراته في الصيد والزراعة، فاخترع الأسلحة، وبدا أكثر تنظيماً، ولاسيما مع تطور نمط التفكير لدى اليونانيين، الذي يعرف باللوغوس، وهو مفهوم يعني نمط التفكير المنطقي، الذي يمكّن الإنسان من تجاوز المعضلات عبر الإفادة من تفوقه على مستوى الوعي، وفي هذا الجزء يحاول الكتاب أن يوضح العلاقة ما بين اللوغوس والأسطورة ليخلص إلى أنهما متكاملان، على الرغم من أن لكل منهما فضاؤه الخاص، غير أن وظيفة الأسطورة كانت تتحدد بمساعدة الإنسان على التعامل مع مخاوفه، وهواجسه العميقة.
«الفكرة من وراء الأسطورة، هي قرع باب القوة اللازمنية الرافعة للوجود الإنساني، لقد كان الغرض من الأسطورة مع ما يرافقها من طقوس، هو التذكير بأن الأشياء ستصير إلى الأسوأ قبل أن تتحسن، وأن الاستمرار والإبداع يتطلبان كفاحاً مكرساً».
انحسار الأسطورة
ما بين (4000 -800 ق. م) نقرأ تدشينا لمفهوم الحضارات الأولى تبعاً لتكوّن المدينة (برج بابل)، والأهم أن الكتابة ظهرت بوصفها أداة للتعبير، فظهر العصر التاريخي الذي أصبح واقعاً، وكل تطور يعني دماراً وفناء لما قبله، وعليه برز الصراع بين النظام والفوضى، فظهرت إشكاليات رؤية هذا الطابع المدني ليمس تموضع الآلهة في الوعي البشري، فبدت أكثر نأياً أو انعزالاً عن الإنسان، تبعاً للفكر الأسطوري، وبذلك اقترب الإنسان من إدراك أنه بات سيد مصيره، ومع تقدم عجلة المدنية تنزعج الآلهة من تزايد البشر، ما يدفع (إنيليل) إله الريح إلى أن يغرق العالم للتحكم في عدد السكان، إلا أن (إنكي) أراد إنقاذها، وهكذا نرى كيف أن الأسطورة، تتماهى مع إشكاليات الوعي بتطور الحدث، ولكنها ترتبط أكثر بمحاولة تفسير معضلة الوجود التي تتصل بفكرة مفهوم الخلق، وهنا نقرأ الدور الوظيفي، حيث تصف الكاتبة استدعاء أسطورة التكوين عند مواجهة البشر كوارث بقولها: «الفكرة من وراء الأسطورة، هي قرع باب القوة اللازمنية الرافعة للوجود الإنساني، لقد كان الغرض من الأسطورة مع ما يرافقها من طقوس، هو التذكير بأن الأشياء ستصير إلى الأسوأ قبل أن تتحسن، وأن الاستمرار والإبداع يتطلبان كفاحاً مكرساً».
ولعل هذا يتوافق مع ما جاء في ملحمة «جلجامش» لقد بدأ الإنسان شيئا فشيئاً مع تقدم الزمن يعاني من فراغ روحي، ولاسيما في بعض أجزاء العالم المتحضر- كما توضح الكاتبة – ما يشي بتحول جديد، ونعني ظهور الدين الذي ظهر في العصر المحوري (800 -200ق.م) فتذكر المؤلفة الجغرافيات التي بدأ فيها ظهور الدين، ونعني شرق آسيا، واليونان، ولكنها تتساءل عن تأخر ظهور الدين هذا في كل من بلاد الرافدين ومصر، وتعلل ذلك بأنه يعود إلى اضطرابات قوّضت النظام الكهنوتي القديم، ومع تقدم الزمن بدا أن تحولاً قد طال مفهوم الآلهة، حيث نزعت عنها الصفات البشرية، أو تلك التصورات الوثنية القديمة، وبدا الميل نحو طابع روحي داخلي، كما في شرق آسيا، التي تركز على الجانب الأخلاقي، ونظم التعامل، ولا سيما مع تراجع مفهوم الوثنية، بعد أن قام ملك بابل نبوخذ نصر بتدمير المعبد، غير أن قوة الأسطورة لم تمنع اليهود من استعمالها، ولاسيما في سفر الخروج، تبعاً لرأي المؤلفة، بالتزامن مع تطور اللوغوس في اليونان، وتبلور النموذج العقلاني، وصولاً إلى فترة ما بعد العصر المحوري (200 ق.م – 1500م).
في هذا المحور ثمة تركيز واضح على الغرب، من منطلق أن مفهوم الأسطورة بدا إشكالياً، بالتوازي مع استبعاد البحث في الأديان التوحيدية الثلاثة، كونها تبنى على نماذج ومفاهيم واقعية، وكون الديانات في الشرق الأقصى قد بدت منسجمة في تكوينها الروحي، في حين اليهودية بدت عدائية تجاه أساطير الأمم الأخرى، على الرغم من أنها استعانت بها للتعبير عن الرؤية اليهودية (ص96)، وهكذا تصل المؤلفة إلى نتيجة قوامها أن الأسطورة بقيت متصلة بالدين، ففي المسيحية تبرز عبر قيامة المسيح، وفي الإسلام عبر الجانب الصوفي، وفي اليهودية تتمثل بالكابالا التي تنهض على محورية التجسيد، غير أن الكاتبة ترى أن ثمة محاولات بدأت مع بعض الفلاسفة المسلمين بعد ترجمة أرسطو وأفلاطون إلى تنقية الدين من بعض الأفكار، وهكذا فعل اليهود من أجل عقلنة التوراة، بيد أن عملية العقلنة واجهت رفضاً من قبل المسيحية، وهي نتيجة ترى الكاتبة بأنها قد وصلت للمفكرين المسلمين واليهود حتى القرن التاسع عشر، غير هذا لا يمكن الوثوق به، إذ يحتاج إلى بحث معمق للوصول إلى حقيقة نهائية.
تخلص المؤلفة إلى أن (1500-2000) يعدّ عصر التحول الكبير، ولاسيما في الغرب، مع بروز الثورة المعرفية، التي أجهزت على الأسطورة، ويكنى عن ذلك بموت الأسطورة، ولاسيما مع تطور النظم الاقتصادية، وتجاوزها النموذج الزراعي بالتضافر مع ظهور التكنولوجيا، والنظام الرأسمالي، فضلاً عن ظهور تحولات سياسية وثورات وصراعات عميقة، لتلخص إلى انتصار الروح العلمية في الغرب، ليتولد لدى الإنسان إحساس بأنه مسيطر على مصيره، فتنزع فكرة القداسة، ويخضع كل شيء للبحث والتعديل، ولاسيما في القرن السادس عشر، غير أن هذا لم يحل دون شعور الإنسان بالقلق، فبدأ الاغتراب ليكون جزءا من تكوينه، فمع تطور النماذج العلمية، كأفكار نيكولاس كوبرنيكوس، الذي نزع عن وعي الإنسان مقولة إنه يمثل مركز الكون، الذي بدا أكثر اتساعاً مما نتوقع، بالتوازي مع لانهائيته، ومع أفكار بيكون، الذي وضع كتاب «تقدم العلم»، شُحذت مدية التطور التي بدأت تقطع كل شيء، ولكنها صدئت حين واجه الإنسان الحروب الكونية والمعتقلات وغرق التايتانيك.. ليخلص الإنسان إلى أن اللوغوس مع أنه قد حسّن من نماط الحياة، ولكنه لم يتمكن من تحرير الإنسان من مخاوفه؛ ولهذا ترى الكاتبة أننا ما زلنا أقرب روحياً إلى كائنات العصر المحوري، من حيث تجذّر القلق، على الرغم من عمق التطور العلمي، ومن هنا فقد ظهرت الفنون والآداب، كي تعالج هذا الخواء، ولاسيما مع غياب ما يساعدنا على الرؤية، ومن هنا بدا الأدب والفن خيارا مقبولاً إلى أن نستعيد سحر الأسطورة.
كاتب أردني فلسطيني
فقط للإفادة في هذه العجالة..
أخ رامي أبو شهاب.. أظن أنك سمعت و/أو قرأت من قبل بأن الكاتبة البريطانية كارين آرمسترونغ نفسها كانت قد قضت جل حياتها كراهبة حقيقية في شتى الأديرة، وقد كرست كل ما لديها من طاقة بشرية للتعبد ودراسة الأديان (وخاصة الأديان التوحيدية الثلاثة).. وفي هذا لها كتاب بيوغرافي شهير بالعنوان الإنكليزي Muhammad / «محمد»، الذي صدر إبان انفجار موجة الكراهية الشعواء للإسلام والمسلمين بعيد صدور رواية سلمان رشدي «آيات شيطانية».. وكتاب كارين آرمسترونغ هذا عبارة عن دراسة، لا بل شهادة، علمية وموضوعية دأبت حثيثا إلى أن تنصف كلا من الإسلام ونبي الإسلام ذلك الإنصافَ المدهشَ من أمام الغرب المغبون والمضلَّل بكرهه وحقده وضغينته إزاءهما في ذلك الحين.. !!