يعيش الإعلام الغربي على إيقاع الحوار الذي أجراه تاكر كارلسون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أسبوعين ونشره على موقعه في شبكة إكس (تويتر سابقا) ويوتيوب، مما جعله عرضة للهجوم والانتقاد لأن الغرب لا يريد الرواية الأخرى لهذه الحرب.
جرى الاتفاق الضمني وسط المسؤولين الغربيين على «عدم إجراء أي صحافي غربي» حوارا مع الرئيس بوتين بعد اندلاع الحرب الأوكرانية-الروسية، وهي الحرب التي تدخل سنتها الثالثة نهاية هذا الأسبوع. وقام كارلسون بتكسير هذا الالتزام بذريعة ضرورة سماع رأي موسكو في حرب بدأت تكلف الغرب عسكريا وسياسيا، بل وأصبحت تمهد لنهاية سيطرة الغرب على العالم.
في البدء، وبغض النظر عن طبيعة كارلسون وهو المتعاطف مع الرئيس السابق دونالد ترامب وكان نجما في قناة فوكس نيوز قبل مغادرتها مرغما خلال أبريل/نيسان الماضي، تجاوز عدد مشاهدات الحوار 150 مليون مشاهد أو زيارة، بين مشاهدة الحوار في حد ذاته أو برامج حول الحوار تناولته بالتحليل والدراسة. وتحول إلى الحوار في مختلف شبكات التواصل الاجتماعي ومنها اكس الذي هزم القنوات التلفزيونية الكبرى مثل سي إن إن وتمت ترجمته الى عدد من اللغات ومنها العربية وعرضته قنوات غير غربية، ويعطي دفعة قوية للإعلام البديل. وهذا الإعلام البديل، ونعني به السمعي البصري في يوتيوب أساسا بدأ ينافس قنوات التلفزيون لأنه يركز على المسكوت عنه أو تلك القضايا التي تحاول الأنظمة في الغرب التقليل منها. وأصبحت هذه المنافسة على شاكلة تلك التي حدثت منذ سنوات بعدما زاحمت الصحافة الرقمية الصحافة المكتوبة وانتصرت عليها، وأصبح عمر الصحافة الورقية يحمل تاريخ انتهاء الصلاحية.
البعض انتقد كارلسون لأنه لم يتحدث عن جرائم الجيش الروسي في أوكرانيا وهؤلاء هم الذين يعتبرون القتلى الفلسطينيين «أضرارا جانبية»
لم يرفض الغرب فقط المقابلة التي أجراها تاكر كارلسون مع الرئيس بوتين، بل لوحت جهات أوروبية بمنع الصحافي من زيارة دول الاتحاد الأوروبي مستقبلا قبل أن تتراجع ويتم نفي هذا الخبر نظرا للضجة التي ترتبت عنه، بينما اعتبرها المحللون الأمريكيون أن بوتين استغل هذه المقابلة لكي يؤثر في الناخب الأمريكي خلال الانتخابات الرئاسية التي ستجري خلال نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أي وكأنه يدعو الأمريكيين للتصويت على دونالد ترامب الذي لا يرى في روسيا عدوا بقدر ما يعتبر الصين هي العدو الحقيقي مستقبلا. والمثير أن بوتين نفسه اعترف في المقابلة بأن الغرب يتخوف من الصين لوزنها البشري والاقتصادي أكثر من الغرب.
والواقع أن هذه المقابلة جاءت في وقت يعاني منه الغرب، ويريد الحفاظ على الرواية الكلاسيكية في النزاع الأوكراني التي تقدم بوتين معتديا على أوكرانيا ويهدد سلامة أوروبا. وجاءت المقابلة برواية وخطاب مختلف جعل الغرب في موقف حرج للغاية. في هذا الصدد، جاءت المقابلة والحرب تدخل سنتها الثالثة، فهي اندلعت يوم 24 فبراير/شباط 2022، حيث يبرز توقف روسيا في المواجهة رغم أن الذي يحارب موسكو هو الحلف الأطلسي عبر بوابة أوكرانيا. وقد تعلن كييف طلب السلام في أي لحظة بعدما تأكد الرئيس فولوديمير زيلينسكي من أن السلاح لم يعد يصل من الدول الغربية، وبدأت الدول الغربية تقنع زيلينسكي بضرورة الرهان على السلام بما في ذلك التخلي ولو مؤقتا عن أراضي دونباس لصالح روسيا لأن استعادتها عبر الحرب يعد مستحيلا في الوقت الراهن.
ووفق معظم برامج يوتيوب في دول مثل فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة وإيطاليا التي تناولت مقابلة تاكر كارلسون مع بوتين بالتحليل، كشفت المقابلة كيف يتمتع بوتين بوضع صحي مناسب، فهو جلس لمدة ساعتين يحلل ويناقش بدون ارتكاب أخطاء، هذا في وقت روّج الإعلام الغربي المرتبط بالإستبلشمنت الغربي أنه مريض بالزهايمر وبالسرطان. والمفارقة أن هذا يحدث في وقت يتم فيه طرح تساؤلات عن الصحة العقلية للرئيس الأمريكي جو بايدن بعدما بدأ يتحدث عن لقائه برؤساء توفوا منذ مدة مثل حالة الرئيس فرانسوا ميتران ويعتقد أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هو رئيس المكسيك، وأحيانا يعتبر ترامب مازال في الرئاسة.
خلال هذه المقابلة، قام الرئيس بوتين باستعراض تاريخي لتأسيس الأمة الروسية، وأبرز أن أوكرانيا دولة اصطناعية خضعت للتأسيس من طرف مسؤولي الاتحاد السوفييتي على حساب دول المنطقة ووحدة أراضيها مثل رومانيا وبولندا ولتوانيا. وركز كثيرا على عدم التزام الغرب بالتعهدات التي تعهد بها مع روسيا لتفادي توسيع حظيرة منظمة شمال الحلف الأطلسي نحو أوروبا الشرقية، وحدثت خمس عمليات توسع حتى أصبحت على أبواب روسيا بضم دول البلطيق ثم ترشيح أوكرانيا لعضوية هذا التجمع العسكري.
قام بوتين بتحميل الولايات المتحدة مسؤولية إنهاء الحرب الأوكرانية، قائلا «إذا أرادت السلام عليها وقف صادرات السلاح لأوكرانيا»، هذا الطرح يثير حفيظة البيت الأبيض لأنه يجعل واشنطن مسؤولة عن الحرب والسلام بدون دور لأوكرانيا. ومن شأن هذا التصريح أن يستغله ترامب في الحملة الانتخابية، وبالفعل يعارض نواب جمهوريون إرسال السلاح الى أوكرانيا.
استغل بوتين المقابلة لكي يبعث برسالة واضحة أن «الغرب استوعب صعوبة إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا بعدما تأكد من تفوق الصناعة العسكرية الروسية لاسيما في الصواريخ فرط صوتية»، وطمأن الأوروبيين بأنه رغم هذا التفوق، لا تريد موسكو غزو أي بلد أوروبي، وما حصل في أوكرانيا كان للدفاع عن الإثنية الروسية في إقليم دونباس ولوقف انضمام أوكرانيا للحلف الأطلسي.
تبقى الأفكار الواردة في مقابلة بوتين قابلة للنقاش، غير أن الذي لا يمكن قبوله هو كيف قامت جهات غربية بالتضييق على تاكر كارلسون ومنعه من إجراء مقابلة مع رئيس دولة بحجم روسيا. لا يعتبر هذا مفاجئا في ظل تبرير بعض قادة الغرب وجزء كبير من إعلام الغرب جرائم الحرب ضد الفلسطينيين التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة. ولعل المثير للاشمئزاز هو أن البعض انتقد كارلسون لأنه لم يتحدث عن جرائم الجيش الروسي في أوكرانيا، وهؤلاء هم الذين يعتبرون القتلى الفلسطينيين «أضرارا جانبية» رغم أن عدد قتلى فلسطين أكثر من أوكرانيا.
كاتب مغربي