تاكسي

في مقابلة أخيرة لي مع الأستاذ عبد الكريم الجسار عبر برنامجه «شطرنج»، سألني المذيع الشاب حول موضوع فرض الحجاب على الصغيرات وعن ظاهرة إقامة حفلات للبس الحجاب أو محاولة إغرائهن بالهدايا والوعود لارتدائه وهن في سن صغيرة. تنتشر ظاهرة حفلات الحجاب هذه تحديداً، والتي تسمى حفلات «تكليف» في المجتمع الشيعي، إذ تلزم العائلات المتدينة صغيراتها في التاسعة من العمر تقريباً بلبس الحجاب، وتتم إقامة هذا الحفل احتفاء بالمناسبة.
حضرتني مباشرة فكرة البرمجة الاجتماعية التي نقوم بها جميعاً تجاه أبنائنا، والتي يقوم بها المجتمع تجاهنا جميعاً قبل حتى فترة بدء الوعي وتسجيل الذاكرة، فكلنا في الواقع نتاج هذه البرمجة. ليس هناك أي بشر على سطح الأرض يعيش في مجتمع إنساني هو بمعزل عن المؤثرات والبرمجات أو هو متحرر من تأثير الآخرين وتأثير بيئته المحيطة عليه وعلى تشكيل أفكاره. بلا أدنى شك، أنا أحاول زرع إيمانياتي وأفكاري في أبنائي، أزين هذه الأفكار وأرفقها بالمغريات التي تعزز من مكانتها وقوتها في نفوسهم، فبأي حق أنقد الآخرين ما آتيه أنا ويأتيه كل أم وأب تقريباً على سطح الأرض تلقائياً وغالباً بدون سبق إصرار وترصد؟ إنها طبيعة الحياة، أن تدفع بأبنائك إلى الطريق الذي تعتقده صحيحاً ممهداً حافظاً لهم في الدنيا وما بعدها إن كنت تعتقد بهذا المابعد، كلنا نفعل ذلك بطريقة أو بأخرى، كلنا نسعى لغرس أفكارنا وأيديولوجياتنا وإيمانياتنا، لربما هي صورة من صور محاولة الاستمرار، ومحاولة البقاء وحفظ النوع، النوع الفكري في هذه الحالة.
بكل تأكيد، قمت أنا بالدفع بأفكاري في نفوس أبنائي، إلا أنني وبعد المقابلة المذكورة أفكر كثيراً في صور البرمجة التي انتهجتها. لا أتذكر إقامتي احتفالاً أو تقديمي «رشوة» مادية ما سوى في مناسبة واحدة، يوم بلوغ ابنتيّ، ففي هذا اليوم أحتفل أنا والصغيرة البالغة منهما بما نسميه «يوم الفتيات»، فنخرج من أول اليوم لآخره، نتسوق ونأكل ونحكي وندخل السينما ونفعل كل ما يمكن فعله احتفاء بهذه المرحلة العمرية الجديدة. أعي أنا خطتي بوضوح، هي محاولة لتعزيز الفكرة النسوية في وعيهما، بذر محبتهما لجسديهما وافتخارهما بكل مراحله ووأد كل مظاهر الخجل من التغيرات الفسيولوجية التي قد تطرأ عليه، وأخيراً تعزيز فكرة قوة وروعة هذا الجسد وهذا التغيير الفاصل (البلوغ) الذي يميز جسديهما بقوة وعظمة تقترب من الإعجاز، وهو التغيير الذي يعامله المجتمع والقراءات الدينية أحياناً على أنه عيب ونجاسة.
إذن، أبرمج أنا أبنائي كذلك، وعياً ولا وعياً، وكلنا نفعل ذلك من منطلق المحبة الصادقة والخوف العارم والرغبة الحقيقية في إسعادهم وحمايتهم. لربما أختلف أنا ومفهوم الفرض، وإن كنا كلنا نحتاج أن نفرض شيئاً من السلطة من منطلق مسؤوليتنا كآباء وأمهات، في فترة أو أخرى من الحياة. كما وأختلف تماماً ومفهوم الضغط الشديد، لأنه وببساطة سيرتد على الأبوين في مرحلة أو أخرى من حياة الأبناء. موضوع الحجاب لا يختلف كفكرة أخلاقية عن غيرها من المواضيع التي نتعامل معها بشكل يومي، فكما أن لدي «شفرة» أخلاقية أتبعها وأربي أبنائي تبعاً لها، للآخرين شفراتهم المختلفة والمتعددة، ولربما هنا تحديداً تكمن صعوبة فكرة الحرية التي تكلمت عنها في المقال السابق ومقالات تسبقه كذلك، صعوبة تكمن في ضرورة التعامل مع إيمانياتك الخالصة على أنها مجرد رمز من رموز الشفرة الإنسانية الكاملة، مجرد رقم، لا تتميز به بشيء ولا يحق لك فرضه بأي صورة أو شكل.
تقول د. نوال السعداوي حول موضوع الحجاب إن فكرته تعزز «جنسية المرأة»، فهو يعلنها مادة شهوة يجب أن تغطى، كما أن التعري أو مساحيق التجميل المبالغ بها مثلاً تعلنها مادة شهوة يجب الاستمتاع بها. بعض النظريات النسوية الجديدة تدفع بالتباهي بالجمال وعدم الخجل من عرضه، فالمحافظة على الجمال الخارجي لا يمكن أن يقلل من الجمال الداخلي أو من القدرات العقلية للإنسان، فالجمال يجب أن يحتفى به بكل صوره، حيث تصل بعض النظريات النسوية إلى مستويات من التحرر الفكري والجسدي الذي لربما لن يستطيع مجتمعنا التفكر فيها، دع عنك التفاعل معها. إذن، تعزيز الجاذبية الجسدية، سواء من خلال تغطية الجسد (كما في المفهوم الديني) أو من خلال تحريره (كما في بعض المفاهيم النسوية)، هو فعل لا يقلل من قدرات المرأة ولا يجب أن يستخدم بأي صورة كمقياس لجديتها أو ذكائها أو اتزانها العقلي أوالفكري. وأراني ما أتيت بشيء جديد، على رأي عادل إمام «رب قوم ذهبوا إلى قوم ما لقوهومش، خدوا تاكسي ورجعوا تاني»، وها أنا أعود بعد لفة طويلة لنقطة البداية، كل واحد حر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحيية للدكتورة ابتهال وللجميع
    في كل الدول والمجتمعات يتبنى الاباء تربية ابناءهم على شاكلتهم في كل الامور لانهم يعتقدون ان ما هم عليه هو الامر الصحيح ويريدونه لابناءهم ولكن في الدول والمجتمعات العلمانية الحقيقية يتحرر الابناء بعد بلوغهم السن القانونية من تاثير اباءهم عليهم ويصبحون احرار في اختيار عقيدتهم او طريقة حياتهم اما في دولنا ومجتمعاتنا فالامر ممنوع قانونيا وخاصة للمسلمين وكذلك عرفيا اجتماعيا

  2. يقول خليل ابورزق:

    ان الله جميل يحب الجمال . و الجمال في كل شيئ. و اعظم الجمال و ابقاه و اكثره اثرا هو جمال النفس جمال العقل جمال القلب.
    نخطئ كثيرا عندما نقيم المرأة بجمالها الخلقي و هو ماليس لها يد فيه اصلا و غير دائم و غير هام اذا افتقدت الجوانب الاخرى.. اعتقد ان هذا عيبا عالميا في تربية البنات رأيته في كل الثقافات التي عرفتها من اليابان الى اوروبا الى افريقيا.
    مرة اخرى اقحمت كاتبتنا الدين في الموضوع مع ان العادات الاجتماعية هي الغالبة و هي الاخطر و هي الاكثر قابلية للنقاش و التغيير. فاقحام الدين سيخرج النقاش عن الموضوع و يعطل الوصول الى نتيجة.
    تربية البنت مسؤولية اكبر من تربية الولد لانها ستكون اما تتحمل القسط الاكبر في تربية الاولاد و البنات الذين هم عماد المستقبل. و اعني تربيتها على تحمل المسؤولية و تقدير قيم العمل و الانتاج و الاخلاق التي تقوم بها المجتمعات. و التركيز على التعليم بشكل خاص لانه اهم مصانع الانسان. وهو اهم مقومات الاستقلال و الاحترام.

  3. يقول فادي / لبنان:

    الصورة في المقال لشيء جديد !
    البعض رآها جميلة والبعض الآخر
    لم ير سوى قطع قماش ومحل بوتيك
    وآخرون عجزوا عن رؤية التفكّر والتأمل
    في وجوههن واناملهن رغم دعوتهم للتفكر
    والعلم
    واذا كنا احرارا فعلا لما التحريض والتطوع لتقرير
    ما يجب على الآخر رفضه او قبوله ؟
    شخصيا ما اراه صورة مفعمة بالحياة
    استعداد وتأمل انضباط وتفكر
    حضارة مصطّفة ترتسم
    اتركوهن بسلام

  4. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    ملاحظة تثير الاهتمام
    السيدة الكاتبة أشارت إلى تقليد احتفالي لدى الطائفة الشيعية في جعل الفتاة تتحجب و هي في عمر التاسعة
    بينما الصورة المرافقة المقال هي للفتيات أطفال دون التاسعة و من الواضح انهم ينتمون إلى عوائل سنية!
    .
    شخصياً لم أجد في ذلك اي براءة و ليس كل الظن إثم.

  5. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    شخصياً لي تجربة في هذا الأمر
    .
    ابنتي و حين كانت في العاشرة او الحادية عشرة من عمرها، فجأة رجعت إلى البيت فأخبرتني والدتها انها اي ابنتي تريد أن ترتدي الحجاب!
    فاجأني الأمر كثيراً، والدتها حين تزوجتها لم تكن محجبة، و اختارت الحجاب لاحقاً بعد سنتين من الزواج بل حين كانت حامل بها، خالتها اي خالة ابنتي لم تكن قد تحجبت بعد
    عائلتي بشكل عام لا يوجد فيها بنت تحجبت في هذا العمر المبكر

    جلسنا معها و هي منذ صغرها كانت دوماً متقدمة على عمرها، و تكلمت معها ما يعني ذلك و ما سيعنيه
    و ان عمرها قد لا يسمح لها باتخاذ قرار نهائي حول هذا الأمر
    و أن تتحجب لاحقاً عن قناعة افضل بكثير من أن تتحجب الان لرغبة تقليد طارئة و من ثم تنزعه لاحقاً لملل منه او تغير في القناعات
    طبعاً، كنت أحاول استخدام لغة و تعبيرات مناسبة لعمرها
    .
    استمرت ابنتي محتفظة بحجابها إلى حد اللحظة دون أي ضغوط، وهي الآن في عامها السادس و العشرين و تحقق نجاحات عملية باهرة و لله الحمد في مجال تخصصها في الصيدلة.
    .
    المشكلة عندي في المقال في نوعية الاستشهادات التي وردت!
    نوال السعداوي و عادل امام؟!
    هل الأمر جدي؟!

    1. يقول فادي / لبنان:

      نعم وجدي جداً !
      والشواهد على اشكالها تقع !!

  6. يقول كل واحد حر:

    هناك طيف واسع ضمن أتباع أي معتقد في درجات التقيد بتعاليم هذا المعتقد و تبني طرق تطبيقها. إن وجود مثل هذه الفئة في المجتمعات الإسلامية هو أمر لا يدعو إلى الإستغراب و لكن هذه العادات يجب أن لا تقف عند المظاهر فقط أو أن يصاحبها التعنيف و القسوة. في الخاتمة فإن الكاتبة كانت صادقة مع نفسها و مع قرائها.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية