«قبل بضع سنوات، لا أدري عددها على وجه الدقة، كنت أنا- وليكن اسمي الذي أُعرف به هو إسماعيل ـ خالي الوفاض من الدراهم أو كالخالي، ولم يعد على البرّ شيء يبعث المتعة في نفسي، فخطر لي أنني قد أقضي بعض الوقت مبحرا، وأرى الجزء المائي من العالم». بهذه الأسطر الثلاثة تبدأ رواية «موبي ديك»، واخترت عنوان الفصل الأول منها اسما للمقال. يبلغ عدد أجزاء الكتاب «الذي يبدو أن العقل البشري أضعف من أن ينتج كتابا مثله»، حسب تعبير برناردشو، 134 فصلا، تقع في حوالي ألف صفحة، لكن الفصل الأول يبقى هو الأهمّ. يشرح ميلفيل هنا أهمية البحر في حياتنا «آلاف مؤلفة من الناس يستبحرون كل يوم، يتأملون الماء، كأنهم حرّاس صامتون قد انبثّوا في كل الأرجاء، بعضهم يتكئ على الأسيجة، وبعضهم يجلس على مشارف الأرصفة، وبعضهم يمدّ عينيه فوق جنبات السفن المقبلة من الصين، وآخرون أمعنوا في تسلّق الحبال كأنما يحاولون أن يبذوا من عداهم في تفرّس الماء».
يصيبنا القرب من البحر بنوع من الحزن والشرود، ويبدو لنا عندها كل شيء حولنا مختلف وغريب، كأننا في زيارة إلى متحف أو مقبرة، حيث يسكننا ذهول يقارب الانخطاف فنبدو مثل أشخاص مسحورين. لا يوجد ساحل في أيّ مدينة يخلو من الناس، في أيّ ساعة من النهار أو الليل. عندما تغلق الحانات وعلب الليل الأخيرة يبقى لدينا ملاذ أخير؛ هو البحر، حتى سماؤه غير هذي السماء، ثم يحلّ الفجر شيئا فشيئا، وترشّ الشمس الصاعدة ألوانها على الموج وهو يعلو، وينحدر، يتكسّر، كأنه مرآة عظيمة تتحطم إلى شظايا تذوب مباشرة في الرمل. «إن في الماء لسحرا، وإن شئت على ذلك برهانا، فاعمد إلى رجل هوّامة في أحلامه غريق في مطاويها، ثم اسنده حتى يقف على قدميه، وادفع به حتى يمشي، تجده يقودك – دون أن يضلّ- إلى الماء، إن كان في تلك البقعة ماء». البقعة هي جزيرة نانتوكت، حيث انطلقت من ساحلها سفينة صيد الحيتان «الباقوطة»، وفيها قضى ميلفيل أربعة أعوام، وهي تبحر في الأطلسي بحثا عن الحوت الأبيض «موبي ديك».
لكنك لا تطلب هذه الناحية، حتما، وأبعد ما تصله قدماك مدينة ساحلية قريبة، كأن تكون بيروت أو إسطنبول، أو في أحسن الأحوال الإسكندرية. ثم تصعد الشمس على شاطئ البحر، وفيه تبدأ الحياة قبل أيّ مكان في المدينة. لا زحمة هنا ولا ضجيج، لأن البحر ليس سوقا، ولا هو مديرية الضرائب العامة. الناس يمشون على مهلهم على الشاطئ، ويسيرون، ويهرولون، ويقفون، كم يبدو مسحورا هذا الكهل الذي يدير ظهره إلى البحر، ويغطي عينيه بنظارة سوداء، ويدخن؟ امرأة تجلس على مصطبة وتشغل يديها بأعمال الحياكة، وتشرب العصير. شابّ بدين يمارس رياضة الجري، وعجوز ترتدي ثوبا رماديا غامقا وتتمنطق بزنار أزرق، تسير وتسبّح بمسبحة تتدلّى إلى الأرض. كأن هؤلاء ينقلون انعكاسات قديمة لأشخاص عاشوا في الماضي، وانقرضوا، وأعادهم البحر إلى الحياة في هذا الزمان. ربما كانت العجوز تعيش قبل آلاف السنين بصورة كاهنة في معبد، ولو عدنا إلى مثل هذا اليوم من عام 2021 قبل الميلاد، فمن المحتمل أننا نجد المرأة التي تحوك كنزة لزوجها كانت أميرة هذه البلاد، وتملك مئات العاملين والعاملات العبيد يطرّزون لها بدلة العيد السعيد. إنه افتراض لا غير، والمنطق والعقل السليمان لا يحاسبان أحدا أن يذهب بعيدا في خياله، ما زال يسكن خارج أسوار مستشفى المجانين..
يصيبنا القرب من البحر بنوع من الحزن والشرود، ويبدو لنا عندها كل شيء حولنا مختلف وغريب، كأننا في زيارة إلى متحف أو مقبرة، حيث يسكننا ذهول يقارب الانخطاف فنبدو مثل أشخاص مسحورين.
أول مرة رأيت فيها البحر كانت في باكو. ما زلت أذكر كيف أثارت تلك النظرة لديّ حاسة الذوق والشمّ، وأخذت أشاهد الماضي كله، مجردا، ومجتمعا، وواحدا، لأني كنت أشمّه مثل وردة يابسة. جميع الناس الذين عاشوا في السابق، أجيالا وأجيالا، أسلافي وأجداد غيري من البشر، كل البشر، وجميع المباني التي اندثرت، والحدائق، وكذلك الغيوم التي عبرت سماء تلك القرون القصيّة… كلّ ذلك صار أمامي في لوحة واحدة؛ هي صورة البحر. وصار أن ظلّ يتكرّر معي هذا الشعور كلما شاهدتُ أمواج البحر التي تموت وتحيا وتموت، كأنها الحياة القديمة تعود إليها الحياة بعد أن ماتت. عندما زار سعدي يوسف مدينة طنجة كان مأخوذا ببحرها، وكتب في «ديوان طنجة»:
ها أنذا أحملُ الوردَ في كيسِ خيشٍ
وأُلقيهِ
موجةُ بحرٍ ستحملُهُ نحو ساحرةٍ من زمانٍ جديد
ارتفعت الشمس، وازداد وهج البحر، وصار له لون الفولاذ المغسول والمترع بالقوة. كان يعبر السماء في تلك اللحظة سربٌ من الطيور المهاجرة يأخذ شكل سهم. من هو الرامي، وما هو الهدف؟
في المدن البحرية تأخذ شوارعها، وحتى البعيدة منها، رائحة البحر التي تجعل سكانها يختلفون في النكهة وفي الطباع عن البقية، حتى يمكن القول إنهم كائنات بحرية من كثر ما جاوروا البحر. في زقاق بعيد عن الشاطئ ثمة مقهى تشعر فيه بأنك جلست فيه، لا في الواقع، ولكن تعرّفتَ عليه عن طريق إحدى قصائد بورخيس. الهدوء، والدعة، وظلال لشجرة تكوّن سقف المقهى:
هذا الظل الواهي وئيد ولا يؤلم
ينساب بمنحدر هادئ
ويشبه الخلود
«حتى البحر يموت» يقول لوركا، لكن الموت هنا يعني التجدّد وعدم الفناء. نحن إذن خالدون حين نسكن بجوار البحر بشهادة اثنين من الشعراء. للبحر رائحة الثياب القديمة، والأشياء القديمة، والحياة القديمة. يفضّل ماركيز السفر بواسطة القطار، لأن الجسد يبلغ المكان المقصود مع الروح، وفي الطائرة تتأخر الروح عن الجسد يومين أو ثلاثة أيام، أما عن طريق البحر فإن الاثنين يصلان معا ما إن ترتفع المرساة. في «الباب الضيّق» يوجّه أندريه جيد إلى صديقته هذا السؤال: «هل تفكرين بما تعنيه هذه العبارة: «إقلاع المرساة»؟ وأنت في عرض البحر، تشتهي أن تقول شيئا غامضا، كأنك تتكلم في الماضي، لكنك لا تستطيع النوم وأنت تسمع هدير الموج في سفينة تعبر بك المحيط. «البحر هو التاريخ»، يقول ديرل واكوت، التاريخ الحديث والقديم والأقدم… نتابع مع والكوت: «أين ذكريات القبيلة منكم؟ سادتي/ في ذلك المدفن الرمادي/ حيث أطبق عليهم. البحر. البحر». هل تستطيع أن تنام والماضي كلّه يهدر أمامك؟ نهضتَ، وأغلقتَ النافذة كي لا يصلك الضجيج. وكنت تقلّب عينيك الجافتين في الظلام، واعتقدتَ أنك نمت. يمكن للرياح القويّة أن تكون تذكارا. لو أني سُئلتُ عمّا تمتاز به مدينتي العمارة عن غيرها لأجبت فورا إنها الرياح القويّة. البساتين تنام هناك على عزف يشبه هذه الموسيقى، ويتهامس السعف الثقيل، أو يصيح، ثم يسكت من جديد، ولكنك لا تستطيع النوم حتى الآن، الفجر بعيد، وما زلت تسمع صخب الموج. «أنا أنتظر النوم، وكأني أنتظر دون انتظار شيء»، تقول في نفسك، ثم بدأت تفكّر في النوم بجديّة، وعندها جاءت الغفوة، وكنت تتصل بالعالم المنبثق من الماضي، وكنت تعدو بين الماء والغيمة، بين النوم واليقظة، وكان البحر ناضجا ويدور من حولك بصخوره وبسحره، خطوته عجلى، وفي يده محارة. تفتح المحارة، ويطلع لك نور، أو هالةٌ، أو نار مقدسةً كأنها تقولبت بين مصراعي صدفة محززة، وكانت ترقص في النار امرأةٌ سوداء الجديلة، عسلية العينين، وقرصان ضخم الجثة مثل عملاق يمدّ لها سيفه، ويصرخ بها:
ـ قبّليه!
القرصان يزعق، ويرشّ امرأته بالخمرة المرّة. شيئاً فشيئاً يعلو غناؤه، ويصاحبها في الرقص. يتّجه نحو البحر بسيفه، ويغنّي مثل وحش. نمتَ، وكان يهدهدك صراخ الوحش، وسوف تشعر بأنه يملؤك، مثلما يفعل الحبّ، بجوهر ثمين.
في الفجر صحوتَ على تباشير نهار جديد…
كاتب عراقي
صباحك بحر لايحد بحدود، تحيةلمقال يثير فينا فيضا من التأمل، وقارئه يبتعد كثيرا عن مقولة انس الحاج” البعض يبحرون فيي محيط بيوتهم” ها انت تبحر بنا في محيط العالم شكرا لك
شكرا لك