تونس-“القدس العربي”: تبُرسَق مدينة تونسيّة تقع في الشّمال الغربي للبلاد ضمن ولاية باجة الفلاحية، وتبعد حوالي 103 كم عن العاصمة في منطقة جبلية يبلغ ارتفاعها ما بين 400 و600 متر عن مستوى سطح البحر. ويعتبر جبل الرّحمة أعلى قمّة 600 متر. وعلى غرار أغلب مناطق الشمال الغربي التونسي تتميز تبرسق بمناخ بارد جدا ورطب في الشتاء بالنظر إلى الارتفاع الذي يؤدي إلى تساقط الثلوج، فيما تعرف المدينة ومحيطها صيفا حارا شأنها شأن باقي المدن التونسية.
واعتبارا لأهمية التساقطات في تلك الربوع التونسية الجميلة والآسرة بطبيعتها الخلابة وبساطها الأخضر البهي، فإن تبرسق تتميز بكثرة العيون المتدفقة وينابيع المياه. وأهم هذه العيون، عين ماء مليتي والعين الرمانية وعين الكرمة وعين نشرة وغيرها من مصادر المياه المعدنية العذبة المفيدة للصحة ومعالجة بعض الأمراض والتي صنعت شهرة المدينة.
تاريخ عريق
الفينيقيون، من ذوي الأصول الكنعانية، القادمون من سواحل بلاد الشام والذين استوطنوا البلاد التونسية والشمال الأفريقي في هجرات بأعداد كبيرة، عمروا من خلالها مدنا وأصبحوا من أهم المكونات العرقية للمنطقة، وهم من أسسوا مدينة تبرسق. والاسم العربي الحالي هو تحريف للاسم الفينيقي “توبورسيكوم بور” أي سوق الجلود. وتطورت الكلمة مع بروز اللغة البونية وهي لغة قرطاج التي هي خليط بين الفينيقية والأمازيغية تماما مثل سكان إمبراطورية قرطاج، لتتطور مجددا مع قدوم الرومان الذين أسسوا قرب تبرسق مدينة أخرى سموها دقة، وأخيرا استقرت التسمية مع العرب على تبرسق.
ورغم أن المدينة فينيقية الأصل إلا أن الحفريات أثبتت وجود حياة بشرية في المكان الذي تقع فيه المدينة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ وتحديدا إلى عصر المعادن. ويفسر المؤرخون ذلك بوجود جميع أسباب حياة الإنسان البدائي مثل الكهوف الجبلية وكثرة المياه ووجود الأحراش حيث نشاط الصيد لحيوانات انقرض أغلبها لكن آثارها ومتحجراتها بقيت شاهدا عليها.
عرفت المدينة مجدها خلال الفترة البونية أو القرطاجية فنمت وازدهرت في ظل إمبراطورية قرطاجية مهابة في البحر الأبيض المتوسط من القوى الكبرى وخصوصا الإغريق والفرس الذين كانوا يغيرون على المدن الفينيقية الشامية فيجدون الأساطيل القرطاجية لهم بالمرصاد حماية لأرض الأجداد الأوائل. وبعد قرون من الهيمنة القرطاجية على المتوسط برزت روما كقوة جديدة في هذا البحر الأسطوري فكانت نهاية قرطاج العجوز على يد روما الفتية فآلت تبرسق بداية إلى النوميديين حلفاء روما في شمال أفريقيا والذين غدر ملكهم ماسينيسا بقرطاج وقدم أفريقيا الشمالية على طبق من ذهب للمستعمر الروماني سنة 146 قبل الميلاد. ثم سرعان ما باتت المدينة جزءا من مقاطعة أفريكا الرومانية التي أصبحت مدينة قرطاج بعد إعادة إعمارها عاصمة لها وغدر الرومان بالنوميديين الذين غدروا بقرطاج. بالرغم من أن محمد حسين فنطر يرجعها للفترة اللوبية فخلال الحرب البونية بين روما وقرطاج كانت تبرسق تتبع الأراضي القرطاجية إلى جانب باجة ودقة، وبعد سنة 146 ق م أصبحت تابعة للنوميديين.
ولم تفقد تبرسق أهميتها خلال الحقبة الرومانية بالنظر إلى كثرة مياهها الجوفية وتساقطاتها وخصوبة الأراضي المحيطة بها خاصة وأن الرومان أولوا أهمية بالغة للزراعة واستفادوا من تطور هذا العلم لدى القرطاجيين والذي اختصر في مدونة عالم الفلاحة ماجون القرطاجي. لقد تحولت تبرسق مع الرومان من بلدية إلى مستعمرة ثم مدينة في عهد الإمبراطور الروماني الأفريقي (نسبة إلى أفريكا الرومانية أي تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا) سيديم سيفار أو سبتيموس سيفيروس حسب النطق اللاتيني.
وتعرضت المدينة إلى التخريب على يد الوندال الذين أنهوا حكم الرومان لأفريكا الرومانية (تونس شرق الجزائر وغرب ليبيا) ودام حكمهم مئة عام وانتهى على يد البيزنطيين القادمين من القسطنطينية في القرن السادس الميلادي. وعرفت الاستقرار من الرومان الشرقيين أو البيزنطيين بفضل ما تمت إقامته من أبراج وحصون وأسوار صدت عنها الغزاة وطورت فيها الحياة إلى حين قدوم الإسلام من جزيرة العرب.
لم يكن الخليفة عمر بن الخطاب متحمسا لفتح أفريكا الرومانية أو أفريقيا حسب التسمية العربية أي الإقليم الذي يضم تونس وغرب ليبيا وشرق الجزائر وعاصمته قرطاج التونسية، وذلك بسبب شدة بأس سكانه وله مقولة شهيرة في هذا الإطار. لكن الخليفة عثمان بن عفان كان له رأي مخالف وفي عهده بدأت أولى الغزوات الاستطلاعية وتواصلت محاولات الفتح إلى عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان حيث خضعت افريقيا للخلافة الأموية في دمشق وأصبحت القيروان التي أسسها عقبة بن نافع الفهري عاصمة الإقليم عوضا عن قرطاج ولها ولدمشق خضعت تبرسق.
لم تتطور تبرسق كثيرا في العهد الإسلامي حتى عندما استقلت دولة بني الأغلب في القيروان عن الدولة العباسية في بغداد، إذ يبدو أن العرب نزعوا إلى تأسيس مدن جديدة واعتبار المدن القديمة بيوت الكفار من الأقوام السابقة من الذين ظلموا أنفسهم. وتواصل الأمر مع الفاطميين ثم الصنهاجيين الذين زحفت على دولتهم قبائل بني هلال وبني سليم العربيتين التي خربت مدينة القيروان حاضرة الإسلام الأولى في شمال أفريقيا ومعها كامل البلاد ونهبت وحرقت وافتكت الأراضي بعقلية جاهلية بدوية لم ينفع معها اعتناق الإسلام.
وبما أن تبرسق تتوفر على أراض خصبة، فقد استوطنتها ومحيطها القبائل الهلالية وحازت على أراض اعتبرتها ملكا لها ما جعلها تستقر وتكف عن سياسة الترحال. وخضعت مثل القادمين الجدد من الشرق من الهلاليين للموحدين الذي خلفهم سلاطين بني حفص الأمازيغ الذين وجدوا القيروان مخربة فنقلوا العاصمة ومركز الحكم إلى مدينة تونس التي كانت في طور التشكل بعد أن أسسها العرب قرب مدينة قرطاج على أنقاض قرية صغيرة.
وعرفت تبرسق الازدهار مجددا مع سقوط المدن الأندلسية بيد الإسبان حيث هاجر إليها وإلى محيطها عدد هام منهم ناهيك أن حاضرة أندلسية هامة تأسست بجوارها هي مدينة تستور. واستفادت المدينة كثيرا من الأندلسيين في تطوير النشاط الزراعي، فقد كانوا أكثر تطورا في هذا المجال من السكان المحليين فقاموا بغرس مساحات هامة من أشجار الزيتون جعلت الجهة لاحقا من أهم منتجي زيت الزيتون ذي الجودة العالية.
معتقل الزعيم
مع دخول الاستعمار الفرنسي إلى تونس سنة 1881 أصبحت تبرسق مراقبة عسكريا ولعبت دورا سياسيا واقتصاديا هاما بعد أن استقر فيها مستوطنون فرنسيون وضعوا أيديهم على أخصب الأراضي الزراعية والضيع الكبرى. ونُفي الزعيم الحبيب بورقيبة خلال الحقبة الاستعمارية إلى سجن تبرسق بعد أحداث 9 نيسان/أبريل 1938 التي طالب فيها التونسيون ببرلمان تونسي واحتجوا على سوء معاملة السلطات الاستعمارية لهم فسقط منهم شهداء وتم اعتقال الزعيم بورقيبة والزعماء الوطنيين من أبناء الحزب الدستوري.
ثم نقل بورقيبة من تبرسق إلى سجن فرنسي ومنه إلى سجن تونسي في طبرقة في كانون الثاني/يناير 1952 ليتم بعد ذلك نفيه مجددا وخلال السنة نفسها إلى جزيرة جالطة في أقصى الشمال التونسي. وتعرف إلى اليوم الزنزانة التي أقام فيها الرئيس التونسي الأسبق إبان فترة الكفاح من أجل الاستقلال من حقبة مريرة من تاريخ تونس الحديث.
وقد تحول السجن العسكري المشار إليه إلى متحف باعتباره استقبل في عدة مناسبات خاصة بين 1938 و1943 وبين 1952 و1954 العديد من الوطنيين المناضلين ضد الاستعمار الفرنسي وعلى رأسهم بورقيبة. وقد افتتح المتحف بعد أشغال تهيئة شملته، ويحتوي على 18 جناحا مواضيعها الأساسية تتعلق بأحداث 9 نيسان/أبريل 1938 وأعمال القمع والمقاومة التي تبعت ذلك، وخاصة في الفترة بين 1938 و1943.
معالم المدينة
أهم معالم تبرسق على الإطلاق المدينة العتيقة التي تبلغ مساحتها حوالي 11 هكتارا وتضم مساجد قديمة منها جامع الرّحمانية، جامع سوق العين والجامع الكبير. كما تضم المدينة العتيقة الحصن البيزنطي أو “القصر” وقد بدأ الحضور البيزنطي في تبرسق سنة 533-534 م، وخوفا من ثورة سكان المدينة أنشأ البيزنطيون شبكة من الحصون مستغلين حجارة الآثار الرومانية. وبني الحصن البيزنطي فوق سور روماني يضم بابين واحد شمالي والآخر شرقي ويقع على طريق الحدائق الجديدة.
ومن أهم معالمها أيضا كنيستها والمدينة الرومانية الأثرية بدقة، التي ما زالت معالمها من معبد ومسرح أثري وحمامات ومبان ومدافن وساحات عامة وطرقات، بارزة للعيان وهي مزار للسياح وتعتبر تراثا إنسانيا بكل المقاييس.
النشاط الاقتصادي
الفلاحة هي عماد الاقتصاد التونسي عموما، وتقع تبرسق وسط أراض خصبة متشبعة بالمياه الأمر الذي ساهم في تطور النشاط الفلاحي فيها. ومن أهم منتوجاتها الحبوب باعتبارها تقع في ولاية باجة وعلى الطريق إلى الكاف وهي مناطق معروفة بزراعة القمح. لكنها وخلافا لمناطق الشمال الغربي وكما مناطق الوسط، تنتج الزيتون وزيته الذي عادة ما يفوز بجوائز عالمية في الخارج من حيث الجودة.
كما يمارس سكانها تربية الماشية وقد حازت المواشي في تلك الربوع والمناطق المجاورة مثل تيبار على شهرة واسعة من حيث لذة لحومها. ويفسر ذلك بتنوع الغطاء النباتي ووفرة المياه المعدنية العذبة وأيضا الهواء النقي الذي يميزها على غيرها. وازدهر أيضا النشاط الحرفي في المدينة بسبب قدوم الأندلسيين إليها واستقرارهم في ربوعها حاملين معهم ما تعلموه من حرف وصنائع أصبحت لاحقا جزءا من التراث التونسي.
وقبل شهرين احتفلت بلدية تبرسق بذكرى مرور 115 سنة على تأسيسها، في هذا السياق تقول حليمة الرزقي ناشطة اجتماعية لـ “القدس العربي” أن هذه البلدة ظلت تحمل لوعة الأندلسيين المهاجرين مشيرة إلى انها لا تزال تحتفظ بالحكايا العتيقة التي تتناقلها الأجيال، وقالت إن أهل تبرسق يفتخرون بالفن الأندلسي العريق الذي يميزهم عن غيرهم من أبناء الوطن وتضيف بالقول: “صحيح إن المدينة توسعت ولكنها لا تزال تحتفظ بمعالم البلدة القديمة كما بنيت لأول مرة. فبلدية تبرسق تضم المدينة العتيقة وسوق العين والحمامات وباب الجبلي وعين الكرمة والمنشية ودقة، إضافة إلى عديد المناطق الريفية مثل عين مليتي وريحانة وعين الحمام”. وتضيف، أن مظاهر الاحتفالات في هذه المدينة لا تكتمل بدون وجود العروض الفولكلورية الموسيقية مثل عرض “الديوان” لحضرة أولاد بن عيسى.
وتبقى تبرسق إحدى أهم أجزاء اللوحة الفسيفسائية التونسية التي تمثل روعة وجمال هذا البلد بكل ما يحتضنه من معالم وطبيعة خلابة وعراقة تعود إلى آلاف السنين.
ارجو من الجميع الدخول تسحاح المعلومات dougga