تبسة الجزائرية مدينة المقاومة والتضحية لتحرير البلاد من نير الاستعمار

كمال زايت
حجم الخط
0

الجزائر-“القدس العربي”:تعتبر مدينة تبسة الجزائرية التي تقع أقصى شرق البلاد بالقرب من الحدود التونسية، من المدن التي جمعت بين العراقة والحضارة وكانت القلب النابض خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وبذلت الغالي والنفيس مثل باقي مناطق البلاد من أجل تحرير الأرض والإنسان، وخلدت بمعارك ضارية نضال شعب أراد الحياة والانعتاق من نير الاستعمار.

تسمى تبسة بالأمازيغية “تيفست” تبعد حوالي 700 كلم عن عاصمة البلاد، وترتفع حوالي 900 متر عن مستوى سطح البحر. وحسب ويكيبيديا فإن المؤرخ الكبير ديودور سيكيولس الذي يرجح نشأتها إلى هرقل، ذكرها تحت اسم هيكتامبول، أي المدينة ذات المئة باب، وقد عرفت بهذه التسمية عند الفينيقيين، وكانت مركزا تجاريا نشطا مع مدينة قرطاج.

وشهدت المنطقة التي توجد بها مدينة تبسة على مر العصور مرور حضارات متعددة، تركت بصماتها في المنطقة، وقد ساعد موقعها الاستراتيجي ووفرة المياه وخصوبة الأرض على استقرار تجمعات بشرية بها، فبعض الشواهد تؤكد أن الحياة كانت موجود بالمنطقة في مرحلة ما قبل التاريخ، فكانت مستقرا للإنسان البدائي، فبعض ما تم العثور عليه من أدوات حجرية وصوانية، والمصنوعات “الأشولية” التي يستخدم فيها الماء الأبيض، وبعض المصنوعات العاترية، خلال فترة الحضارة العاترية التي تعود إلى 3000 إلى 4000 سنة قبل الميلاد، والتي تعود إلى منطقة واد الجبانة ببئر العاتر، ومرت حضارات أخرى بالمنطقة مثل القفصية، وخلال مرحلة فجر التاريخ، وهي المرحلة التي بدأ الإنسان فيها يستقر في المغارات والكهوف، وهو ما بينته الأبحاث الأثرية في منطقة “قسطيل” شمال مدينة تبسة بالقرب من جبل الدير ويصطلح بتسميتها بالحواتية، وقد عثر فيها على أدوات فخارية من أواني بها زخارف محلية في الفترة القديمة.

وحسب البحوث فإن مدينة تيفست تأسست في القرن الثالث قبل الميلاد، لكن الأدلة المادية المتمثلة في الكتابات اللاتينية تشير إلى أن تأسيس المدينة يعود إلى القرن الأول ميلادي، وتحولت إلى مقر مهم إلى دائرة المالية وإدارة الممتلكات خلال القرن الثاني والثالث للميلاد، ودخلت الديانة المسيحية المنطقة في منتصف القرن الثالث ميلادي، وفي تلك الفترة كان لها أسقف أسمه لوكيوس قنصل بقرطاج عام 256 م، وبقيت المنطقة تحت حكم الرومان حتى سنة 443 ميلادي، قبل أن يأتي الوندال الذين كانوا ضد الكاثوليكية فقاموا بهدم كل ما عنده علاقة بالرومان، واستولوا على كل الممتلكات المهمة، وفرضوا ضرائب على المواطنين وحصنوا المدينة بأسوار عالية.

وجاء بعدهم البيزنطيون بقيادة الجنرال سولومون سنة 534 ميلادي، وقام بتأسيس قلعة بيزنطية أسوارها من حجارة المدينة الرومانية خلال حملته الأولى، وحصن المدينة بـ 14 برجا، ووضع لها مدخلين، الأول شمالا يتمثل في قوس النصر كاراكالا، وشرقا الباب الخاص بالجنرال سولومون، لكن حكمه لم يدم طويلا، فقد تم القضاء عليه من طرف قبيلة محلية، في كمين نصب له، وكان ذلك في نهاية القرن السادس للميلاد.

وعرفت مدينة تبسة قدوم الفتح الإسلامي، وأصبحت تدعى تبسة في سنة 1573 وأصبحت خاضعة للحكم العثماني بعد أن سيطر الحاكم التركي ستان باشا على تونس سنة 1842 وبعد ذلك سقطت المدينة تحت الاحتلال الفرنسي الذي دخل الجزائر سنة 1830.

وما زالت بعض الآثار القائمة في المدينة مثل قوس النصر، والسور البيزنطي، والمدرج المسرحي، والذي يعتبر من البنايات الأولى التي شيدها الرومان بالمنطقة، فقد تم بناؤه في عهد القنصل الخامس الإمبراطور فسباسيانوس سنة 75 ميلادي، استعمل هذا المدرج كملعب أو مسرح وأحيانا لألعاب المصارعة بين الفرسان وأسرى الحروب أو مع الحيوانات المفترسة، أما معصرة برزقال، فتقع على الطريق بين تبسة وبئر العاتر، بنيت ما بين 98 و117 سنة ميلادي، والتي كانت تستغل في عصر الزيتون، وكانت هذه المعصرة التي اكتشفها الفرنسيون تضم عدة طوابق وتمتد على حوالي 2000 متر مربع، وتوجد بها سبعة أبواب في كل واجهة وتضم كل جهة عدة معاصر، ويعطي هذا المعلم صورة عن الحياة الاقتصادية والفلاحية في المنطقة في عهد الرومان، وتصنف أهم معصرة بعد تلك الموجودة في منطقة الناظور بتيبازة غرب العاصمة.

 وتوجد كذلك الكنيسة الرومانية، التي هي أحد المعالم التاريخية النادرة، والتي بقيت محافظة على طابعها المعماري الأصلي. وحسب الباحث ستيفن قزيل فإن بناؤه تم في العصر الأخير للحضارة الرومانية، حيث عرفت الديانة المسيحية النصر والازدهار في تلك الحقبة، والكنيسة الرومانية مقسمة إلى قسمين أحدهما عبارة عن حديقة مقسمة إلى أربعة أقسام على شكل صليب، والقسم الآخر يضم الكنيسة الميناء، لها مدخل واحد على شكل قوس ويقطعها ممر طوله 52 م مبلط بحجارة صلبة على يمينه يوجد مدخل الكنيسة من جهة المدرج، ثم الرواق والمكان المربع الذي لم يتبق منه إلا حافته السفلية، وروعة التصميم في هذا المعلم تتمثل في القاعة الكبيرة المقسمة بأعمدة دائرية تحمل أقواسا وأخرى مربعة وجميع قاعاتها مبلطة بالفسيفساء، وكانت أكبر الكنائس الرومانية، وهمزة وصل بين شمال أفريقيا وأوروبا، وكذا قوس كاراكالا الذي أقيم بطريقة فريدة على شكل مربع ويرفع فوقه قبة، وقد أخضع المعلم إلى عملية ترميم خلال الحقبة الاستعمارية، وما زال إلى يومنا هذا يحافظ على طابعه المعماري، رغم زوال ثلاثة من أعمدته بسبب الحروب القديمة، وتوجد معالم أخرى مثل القصر القديم، والمعبد الوثني.

الجبهة الشرقية

لعبت مدينة تبسة دورا حاسما في دعم وإسناد ثورة التحريرية الجزائرية التي اندلعت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954 وشهدت عمليات عسكرية ومعارك استهدفت تعميم العمل المسلح على جميع المناطق، لكسر الصورة التي أراد المستعمر تقديمها بشأن الثورة، التي أراد أن يجعل منها مجرد أحداث محصورة في منطقة معينة، وتبقى معارك “أم لكماكم” و “جبل الجرف الكبرى” و”جبل أرقو” شاهدة على تضحيات المنطقة في سبيل الحرية.

وتصنف معركة “أم لكماكم” كأول معركة كبرى جرت وقائعها في جبال النمامشة يوم 23 تموز/يوليو 1955 أي بعد حوالي سبعة أشهر من اندلاع الثورة بقيادة بشير شيحاني، بحسب المجاهد محمد حسن الذي أدلى بشهادته لوكالة الأنباء الجزائرية، مؤكدا أن المعركة تزامنت والاحتفال بعيد الأضحى، وأنها انطلقت عند الساعة الخامسة صباحا، ودامت حوالي ثلاث عشرة ساعة، وشارك فيها قرابة 300 مقاوم، والتي اندلعت ردا على عمليات التمشيط التي قامت بها قوات الاحتلال الفرنسي عبر مختلف أنحاء المنطقة، وأسفرت المعركة عن مقتل ما لا يقل عن150 جنديا من جيش الاحتلال الفرنسي، مقابل استشهاد 25 مجاهدا من بينهم إبراهيم فارس المقدادي فرحي وغيرهم، وإصابة عدد من المقاومين بجروح على غرار لزهر دعاس، والطيب فارح، ومحمد بن عثمان نصر، وغيرهم.

وتأتي بعد ذلك معركة “جبل الجرف الكبرى” التي توصف أيضا بـ “أم المعارك” من بين كبريات المعارك، والتي فرض خلالها أفراد جيش التحرير الوطني في العام الأول من الثورة، استراتيجية عسكرية بنجاح في مواجهة استراتيجية وسياسات القمع للمستعمر الفرنسي.

وحسب مذكرات المجاهد الوردي فتال فإن المعركة انطلقت في 22 أيلول/سبتمبر 1955 وتواصلت على مدار ثمانية أيام، وشارك فيها 400 من المقاومين، بقيادة معظم قادة المنطقة العسكرية الأولى على غرار بشير شيحاني، وعباس لغرور، وعاجل عجول، والوردي ڤتال، وفرحي ساعي.

وسارعت القوات الاستعمارية لتطويق جبل الجرف من جميع الجوانب، وسخرت حوالي 40 ألف عسكري من المشاة والمدفعية والطيران، لكن قوات المستعمر تكبدت خسائر كبيرة، حيث سجل مقتل 700 عسكري وجرح أزيد من 350 آخرين، وسقوط عديد الطائرات، في المقابل استشهد حوالي 170 من أفراد جيش التحرير، وساهمت هذه العملية بشكل كبير في تدويل القضية الجزائرية في المحافل الدولية وخاصة في الأمم المتحدة.

ويقول المؤرخ محمد زروال في كتابه بعنوان “النمامشة في الثورة” أن “معركة جبل أرقو” كانت لها دلالة واضحة، وكان لها أثر إيجابي في تغيير نظرة المستعمر الفرنسي للثورة، وأن عددا كبيرا من المقاومين شاركوا في تلك المعركة، التي جرت خلال شهر تموز/يوليو من العام 1956 على غرار الوردي فتال، و الزين عباد، و عمر عون، محمد بن علي، بقيادة الشهيد لزهر شريط، الذي ترك بصمة لا يمكن نسيانها، وأصاب العقيد الفرنسي (آنذاك) مارسيل بيجار برصاصة كادت تصيبه في القلب، وحققت المعركة نصرا ظل محفوظا في صفحات تاريخ الثورة المضيئة.

خط شال

لعبت مدينة تبسة على غرار المدن الحدودية دورا مهما في تأمين جيش التحرير بالمؤونة التي كانت تصل من تونس والمغرب، وهو الأمر الذي جعل المستعمر الفرنسي يفكر في طريقة لقطع المؤونة والسلاح والمتنفس من الجهتين الشرقية والغربية، ومن هنا جاءت فكرة خطي شال وموريس، وهما عبارة عن أسلاك شائكة ومكهربة لفصل الجزائر عن جارتيها، وحرمان الثورة من متنفس ودعم لا غنى عنه، وكانت مدينة تبسة معنية بجزء من خط شال، الذي كانت له تسميات عديدة مثل “الخط اللعين” أو “خط الموت” الذي أقامه المستعمر الفرنسي سنة 1958 على طول الحدود الجزائرية التونسية انطلاقا من بلدية أم الطبول (الطارف) شمالا إلى بلدية نقرين (تبسة) جنوبا، في منطقة الرميلة.

وخط شال المكهرب هو عبارة عن أسلاك شائكة بها 6 خطوط مكهربة عرضها 12 مترا بقوة 15 ألف فولت، وتم تدعيمها بألغام مضادة للأفراد، وأسلاك شائكة مربوطة بمراكز الحراسة والمراقبة لمنع المتسللين للداخل أو الخارج، ودفع المئات من المجاهدين حياتهم ثمنا للمرور عبر الخط نحو الضفة الأخرى ذهابا وإيابا، ورغم صعوبة التعامل مع الخط في البداية، إلا أن أفراد جيش التحرير مع مرور الوقت تمكنوا من اختراقه، وإحداث ثغرات باستخدام مقصات خاصة مزودة بمعازل وقائية لقطع الأسلاك المكهربة مكنتهم من التسلل عبره إلى الجهة الأخرى، ولكن آثار تلك الحقبة ما زالت موجودة حتى يومنا هذا من الذين تضرروا من الألغام التي زرعها المستعمر الفرنسي، وما زال الكثير من سكان منطقة الرميلة، وخاصة ممن عايشوا الثورة التحريرية يتذكر صدى دوي انفجار الألغام، عند عبور أعضاء جيش التحرير بخط شال المكهرب.

ولعل أبرز فيلم يحكي عن تبسة بعد الاستقلال، هو فيلم “طاحونة السيد فابر” للمخرج الجزائري الشهير ابن مدينة تبسة أحمد راشدي، والذي شهد مشاركة عديد نجوم السينما الجزائرية والعربية مثل سيد أحمد أقومي ونجوم الفن السابعى في مصر عبد المنعم مدبولي، وعزت العلايلي وحسن مصطفى والممثل الأمريكي جاك روفيلو.

وقد انتج الفيلم سنة 1973 وتم تصوير معظم شاهده بوسط مدينة تبسة، وبمقر المجلس الشعبي البلدي، وساحة كانو، والحمام الشعبي لحسن بوسط المدينة، ومقهى الشباب بساحة كارنو، بالإضافة إلى مشاهد تم تصويرها ببلدية الحمامات، كما أشرك المخرج عددا من الشخصيات المحلية المعروفة بولاية تبسة، وكذا أنصار فريق اتحاد تبسة لكرة القدم.
وتدور أحداث الفيلم حول فترة ما بعد الاستقلال، وبالتحديد بين عامي 1963 و1965 في بلدة نائية تقع على الحدود بين الجزائر وتونس هي تبسة، والتي ساهمت كغيرها من المدن في إنجاح ثورة التحرير، ولكنها بعد الاستقلال تغرق في رتابة وفي نوع من الإحباط، بسبب القرارات والممارسات التي تصدر عن الجزائر العاصمة، والمركزية التي قام عليها النظام بعد الاستقلال.
ومن بين السياسات التي طبقت بعد الاستقلال، في إطار النظام الاشتراكي الذي اختار النظام الجزائري السير عليه، سياسة التأميم، حيث وفي إطار الفيلم تستعد المدينة لاستقبال مسؤول كبير قادم في زيارة رسمية، ولكن المسؤولين المحليين لا يجدون شيئا قابلا للتأميم، سوى طاحونة فابر، وهو رجل فرنسي مسن من أصل بولندي، ولكن المسؤول الكبير لا يأتي في النهاية، ويقرر فابر الرحيل عن المدينة، ويسعى رئيس البلدية لكشف الحقائق فيتم حبسه.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية