تجاعيد

نحن لا نعرف إلى أين نتوجه لأننا حقيقة لا نعرف من أين أتينا، مغيبون نحن عن تاريخنا الحقيقي إلى حد مهين وخطير. تواريخ بلداننا في معظمها غير حقيقي، قصص أنظمتنا في خالصها مبهرجة مزينة، حتى تواريخنا الشخصية، قصص عائلاتنا وامتداداتنا، كلها مزينة بما نريد أن نصدقه عوضاً عما كانت عليه فعلياً، وكأن كلاً منا مضطر لتحمل مسؤولية هذه التواريخ المختلفة وعبئها، وأحياناً حرجها. في ذلك لا يختلف، ولربما يتفوق، سرد تاريخنا الديني في مغالطاته وتزيينه وتوريته عما عداه من السرديات التاريخية المختلفة. إذا ما تفكرنا قليلاً، كعامة الناس العاديين وليس الأكاديميين، نحن الذين تلقينا علومنا الدينية من المدارس لا بحثاً وتنقيباً وتمحيصاً بحر إرادتنا، ماذا نعرف مثلاً عن تاريخ العرب قبل الإسلام؟ هل ندرك حقيقة أن معظمهم كانوا على المسيحية على سبيل المثال؟ ماذا نعرف عن حقيقة تلقيهم وتقبلهم للدعوة؟ ما هي حقيقة التراسل مع الروم والفرس؟ كيف رد ملوك هذه المناطق؟ هل كان تاريخ الإسلام في هذا الجانب سهماً مستمر الارتفاع والنجاح؟
من المبهر حقاً أن الصورة التي في مخيلتنا لعرب قريش ما قبل الإسلام لا نصيب لها من الصحة، وفي الغالب هي من صنع الأفلام والمسلسلات التي تعرض تاريخ هذه الحقبة، حيث يظهرهؤلاء مشعثي الشعر واللحى، مكفهري الوجوه، في يدهم عظمة كبيرة ملفوفة بالشحم واللحم يقضمون منها بضراوة، وهي الصورة الأقرب، ويا لغرابة وسخرية القدر، لتلك التي لبعض مشايخ هذه الأيام. كما وأنه، وبعد القليل من القراءات والمتابعات المتعمقة، تبين أن معظم ما نعرف عن تاريخ مكة والمدينة والمدن المحيطة لربما يبتعد كثيراً عن الواقع، كما أن الكثير من تواريخ الأحداث الإسلامية التي حدثت في هذه المناطق مبهم وأحياناً متضارب. وبمتابعة لتواريخ بعض المساجد التي بنيت في أول عهد الإسلام على سبيل المثال، سنجد أن قبلتها تتجه باتجاهات غير تلك التي باتجاه مكة، فما كان السبب وما هي النظريات التي تفسر هذه الظاهرة؟ قرأنا نحن الرسائل التي أرسلها النبي إلى الدول المجاورة، لكننا لم نقرأ الردود عليها، اقتنعنا بتفاصيل الحروب والغزوات كما قيلت على لسان المنتصر لا المهزوم، حتى علاقة النبي باليهود والمسيحيين فيها الكثير من التفاصيل التي تستحق الكثير من الاهتمام والتمحيص، إلا أنها كلها مغيبة خفية. إن أكثر ما يخيف المسلمين اليوم هو السردية المختلفة، فتلك تؤدي إلى أفكار مختلفة ورؤى مختلفة، ونحن أصحاب الطريق الواحد والرؤية المنفردة، التاريخ الإسلامي صفحات ناصعة البياض بالانتصارات والفتوحات، ومن يقول غير ذلك فهو إما مارق أو متربص يريد بنا- كما يريد بنا العالم بأسره على ما يبدو- الشر والهزيمة.
ما هي قصص النساء في الإسلام؟ ماذا نعرف عن حفيدات الرسول وكيف كن يتصرفن ويحيين؟ كم سيدة حكمت تحت المملكات الإسلامية؟ ما هي حقيقة الخلافة الأمــــوية؟ لماذا هناك عـــلاقة مسيحية وثيقة بالأمويين؟ ما هو تأثير بلاد الشام على الفكر الإسلامي، وكيف نراه في الأدبيات والتراث الإسلاميين؟ لماذا ارتدّت القبـــــائل بعد وفاة الرسول؟ ماذا حدث في حروب الردة؟ ماذا حدث يوم السقيفة؟ ماذا حدث في ذلك اليوم وفي ما تلاه من قلائل الأيام؟
ليس الغرض من إثارة هذه الأسئلة هو تحريك الدفاعات الطائفية أو الدينية أو إثارة الخلافات الثيولوجية التي قد تضرم فينا النار جميعاً، إنما الغرض من إثارة هذه الأسئلة هو فعلياً فهم إلى أي درجة تبدو حساسية تلك الأسئلة ؟ لم هي خطيرة على هذا النحو بأن فتح حفرة صغيرة في جدرانها السميكة قد يبثنا لهباً وناراً ووبالاً؟ لماذا نحرف ونغير ونخفي ونتجاهل؟ مم نخاف حقيقة؟ لماذا تقودنا أجوبة الأسئلة إلى صراعات لا تنتهي؟ قد تكون الأجوبة على الأسئلة هي الخطوة الأولى والأهم، فمعرفتنا لمصدر خوفنا وتمييزنا لقاع قلقنا قد يساعدنا على أن نكون أكثر تفهماً لنفسياتنا ولمصادر العلاقة المعقدة بينها وبين تاريخنا، وبالتالي يساعدنا على أن نكون أكثر تقبلاً لطرح الأسئلة، ومن ثم أكثر شغفاً للبحث الحقيقي عن أجوبتها.
لربما ما بين أيدينا هو الحقيقة، ولربما هي تخفيف لها، ولربما هو زائغ عنها، وسنبقى نحن زائغين طالما زاغ ماضينا عنا، لا بد أن نعترف بالماضي، نفهمه.. نعتبر منه.. حتى نستطيع أن نخطو للمستقبل، لا بد أن ننظر لأنفسنا في المرآة مرة بدون مساحيق تجميل، فنمسح على خطوط الوجه ونتصالح معها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الوعد الحق مصر:

    ذلك المقال يتناول فترة قرون طويلة من التاريخ وتلك الأسئلة من حق الكاتبة أن تسألها وأضعافها ولكن حق على أهل العلم من العلماء المسلمين أن يعطونا الإجابات التى لا ينبغى أن يرد غيرهم عليها لأنهم أى العلماء أهل الذكر فى هذا الأمر إتباعا للتوجيه القرآن بهذا الصدد حيث قال تعالى(واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)….وقد راعنى عدم اقتران الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة مع ذكر الكاتبة وصفه عدة مرات فى المقال دون أن نشكك ف النوايا التى لا يعلمها إلا الله.

    1. يقول خليل مطران:

      ومن قال لك أن الكاتبة لم تصلِ على النبي في سرها أم ضروري تكتب الصلاة حتى تطمئن أنت وغيرك على صحة إيمانها ، ثم يا أخي اعلم أن الكاتبة هي علمانية التفكير واللغة والمعروف أن لغة العلمانيين تمتاز بالاقتضاب والاختصار فليست كلغة المتدينيين التي تمتاز بالإطناب والاستطردات والعواطف الجياشة

  2. يقول فؤاد مهاني - المغرب:

    لم أفهم ماذا تريدون من طرح هذه الأسئلة الملغمة.هل معنى هذا أن تاريخنا الإسلامي العظيم مشوه كالح أسود عبارة عن أساطير وخرافات. وأنطلق من بعض الأحداث التاريخية التي ذكرتها كمؤتمر السقيفة وحقيقة الخلافة الأموية وهي فترة عاصرها عدد كبير من الصحابة الذين رضي الله عنهم بنص القرآن الكريم ومن يطعن فيهم فهو يطعن في الرسول محمد (ص) ويطعن في القرآن الكريم.
    هذه قاعدة يجب الإنطلاق منها.فالمسلم الذي يشكك في مؤتمر السقيفة بادعاء أن هناك مؤامرة أو خيانة فأنت تؤذي الرسول الأكرم وتشكك في كلام الله.وقس على ذلك الخلافة الأموية وهي من أعظم الخلافات الإسلامية لأن مؤسسها الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان من كتاب الوحي.
    يتبع من فضلكم الكريم.

  3. يقول فؤاد مهاني - المغرب:

    وقد قيل فيها ما قيل من أن معاوية كان ينازع علي بن أبي طالب من أجل الحكم والحقيقة بخلاف ذلك هو أن الصحابيين اختلفا في الرأي.فمعاوية كان يود الإقتصاص أولا من قتلة عثمان بن عفان ذي النوريين والخليفة الراشد بينما علي كرم الله وجهه كان يرى توطيد الأمور بالقضاء على الفتنة أولا ثم بعد ذلك يتم النضر في قضية عثمان.إذا الخلاف كان على الحق وليس من أجل غرض دنيوي.
    هناك كلام آخر بعيد عن الإنصاف كالتركيز على الوجه المظلم لبني أمية كالظلم وينسون عدة أمور كبيرة ومشرقة قدمها الأمويون للمسلمين يطول المجال لذكرها.وإننا لا نخجل من تاريخ إذا كان مبنيا على منهج وبحث علمي وليس على سفسطات أو تدليس لأجل التضليل والإضلال.

    وإننا لا نخجل من تاريخ إذا كان مبنيا على منهج وبحث علمي وليس على سفسطات أو تدليس لأجل التضليل والإضلال

    تاريخنا يا سيدتي ليس من صنع المسلسلات ولا أفلام إنما هو من صنع رجال وأبطال خلدهم التاريخ تربوا على سيرة نبينا الأكرم دفعت بعض المستشرقين
    المنبهرين بهذا التاريخ الإسلامي إلى الإنصاف بل والإعتراف بنبوة محمد (ص) أبرزهم المستشرقة الألمانية آن ماري شيميل.

  4. يقول بولنوار قويدر-الجزائر:

    السلام عليكم
    تحية طيبة مباركة
    بكل فخر وإعتزاز أنّنا لا نخجل ولا نخاف من تاريخنا المجيد فهو بيته مصنوع من زجاج كما يقولون نرى (بفتح النون) ونرى(بضمّالنون) وفيه من الحقائق والقصص لا يستطيع أي معتقد أن يسردها في رجاله بينما نحن نقول ما فيهم وما لهم بكل علمية ومصداقية ليس قصدنا النيل من هذا أو ذاك فأين نجد ذلك في بقية تاريخ الأمم ؟؟ لا نجدها إلا في التاريخ الإسلامي الناصع البياض المعطر بالحقيقة ومن يطعن في ذلك إلا لمتحرف لقول أو متحيّز لرأي….
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  5. يقول رياض-المانيا:

    تحية عطرة لك أخي العزيز د. أثير. بل انا من افرح واتعلم دوما من تعليقاتك وافكارك النيرة وتحية للغالي بولنوار وابن وطني العزيز رؤوف وللجميع دون استثناء وقبل ان انسى ومع أني لست متابعا بشكل عام لكرة القدم أبارك هنا بفوز قطر بكأس آسيا. دمتم جميعا بخير احبتي.

  6. يقول المغربي-المغرب.:

    لم تشكل الدراسات الاستشراقية أية عقدة لي في فترة الدراسات التخصصية. ..لسبب بسيط وهو أنني اعرف الأهداف والمفاتيح الفكرية لأصحابها ومدارسها. . وقد قضيت فترة زمنية مهمة تعرفت أثناءها على فكر تينمان..ورينان….وماسينيون. ..وكارادوفو….الخ وعندما كانت تختمر في ذهني أسئلة محورية معينة. ..كنت أسارع إلى أستاذ فرنسي لمناقشته في الأمر. ..ولن أنسى يوما عندما قال لي بالحرف…أما كان الأولى بك أن تطرح هذه الاستفسارات على من هم أهل مني لمناقشتك فيها..؟؟؟ قلت من تقصد…؟؟، قال عندكم طه عبد الرحمان. ..والمهدي بنعبود…والجابري. ..وامليل. ..ويفوت. ..وسبيلا. ..وهم أوثق علاقة بتراثكم ومفاهيمكم ولغتكم وتاريخكم. ..وتريدون أن تعرفوا أنفسكم من خلال من لايرى ..إلا ذاته في الصورة…والباقي مجرد انعكاس ينبغي محوه أو تتفيهه..؛ ورغم هذا التنبيه من ذلك الأستاذ الفاضل الذي قصد به عدم الاطمئنان إلى ما يتردد عند كثير من مفكري الغرب حول الفكر الإسلامي. ..إلا أنني لن أنسى صراحته في نقد الذات الفكرية الغربية التي لاتجد لنفسها محلا إلا في الهيمنة وإقصاء الآخر. …علما بأن البحث الاستشراقي والغزو الاستعماري شكلا. .مرتكزين متقابلين في سياسة الدول الاستعمارية. ..وبطبيعة الحال فان مثل هذا العمق وهذه الصراحة لن تجدها عند بسطاء المستلبين.

  7. يقول إلياس الجزائر:

    السلام عليكم..من حق أي أحد أن يطرح ما يشاء من الأسئلة و لا أحد يمنعه من ذلك ما دام أسئلته في حدود الإحترام المتبادل و محاولة معرفه أحداث مضت..فمثلا نشوء الحضارات و إندثارها منذ أزمنة ساحقة كتبت(ضم الكاف) بعدة روايات،و حتى ظهور الإنسان على هذا الكوكب تناولته كثير من النظريات العلمية المتضاربة فيما بينها! رغم البحث المضني و إستعمال علمية حديثة،كما نجد نفس المشكل في ظهور الديانات السماوية أو الوثنية فقد يجد الباحث عدة قراء ات أو إتجاهات متناقضة أحيانا كثيرة.. يتبع

  8. يقول إلياس الجزائر:

    ..و نفس الشيئ بالنسبة للشعوب و هجراتها عبر التاريخ الطويل،و عمرانها ،و حروبها مع شعوب أخرى، في حركة مستمرة لا تنتهي،فإذا تناول باحث ما عرب الجاهلية،فمهما حاول و تحرى فهو لا يفي بغرض الباحث لتناقض الأخبار..و مثال الحربين العالميتين دليل التناقض،فأمريكا لديها مصادرها كما الأوربيين و الروس إلخ..،فلا أحد يستطيع أن يسرد الحقيقة المطلقة،لأن هذه الحقيقة لا يعلمها إلا الله وحده فمثلا حينما سأل فرعون سيدنا موسى عليه السلام عن الأقوام الذين خلوا من قبل أجابه :(” قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ (51)قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) ”)..يتبع.

  9. يقول إلياس الجزائر:

    .إذن فكل إنسان مهما إجتهد في البحث عن حقيقة لأقوام أو أحداث مضت سيضل لا محالةفي شك منها لعدم توفر كل مصادر الحقيقة…نحن نعتقد من وجهة نظرنا أن التاريخ الحقيقي بالنسبة للمسلمين يوجد في ثلاثة مصادر : كتاب الله القرآن و هو كتاب لم و لن يتبدل منه حرف أو حتىنقطة إلى يوم القيامة ثم سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه و سلم(للعلم السنة هي أفعال الرسول صلى الله عليه و سلم )التي إنتقلت عبر التواتر من جيل إلى جيل و لا يمكن أن يشك فيها أبدا بشهادة الملايين من المسلمين منذ البعثة إلى يومنا هذا،ثم يأتي الحديث في الدرجة الثالثة و هو قول النبي الأكرم صلى الله عليه و سلم..يتبع

  10. يقول إلياس الجزائر:

    .و يمكن أن يكذب(ضم الياء)فيه كما يوجد فيه خير كثير إذا ما درسه أناس ربانيون لفرز الصحيح من المزيف و وضعه في ميزان القرآن المجيد،و بسبب إختلاف الأئمة القدماء،في ترجيح هذا الحديث ورفض الآخر ظهرت المذاهب الأربعة و غيرها..و منها ما مس أصل العقيدة للأسف، و ليس هذا مجال الحديث في هذا الموضوع..يتبع

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية