الدولة التي لا تضمن لأغلبية مواطنيها الحد الأدنى من كرامة العيش، لا تستطيع أن تحفظ احترامها. والحكومات المتعاقبة لم تفعل شيئا إزاء حدة البؤس والفقر المولدين الأساسيين لتفجر الغضب الاجتماعي والاحتقان الشعبي، الذي استنفد كل طاقات الاحتمال والصبر.
من حاصل تراجع نسب النمو وتفاقم البطالة وبلوغ التداين مستويات غير مسبوقة، والتغير شبه الهيكلي للنسيج الاقتصادي والمالي، وظهور مشهد اجتماعي جديد، فقدت فيه الطبقة الوسطى قدرتها الشرائية، وأصبحت الطبقة الفقيرة معدمة تماما. وهذا التحول السلبي للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، يأتي نتيجة عدم استقرار الأوضاع السياسية، بسبب تبني مشروع النظام المجلسي الذي شتت الجهود، وأحدث تذبذبا على المستوى التشريعي، ورسْمِ سياسات التنمية. فالثقافة الديمقراطية غير متوفرة للأكثرية من الذين يمارسون الرداءة داخل مجلس النواب، والنظام البرلماني يقتضي ثقافة برلمانية سياسية، دُونَها ثقافة الصراخ وصراع الديكة، الذي تم شحذه إعلاميا. وبالمحصلة صنعت رداءة الإعلام رداءة السياسة والعكس صحيح.
تلك ضريبة النظام البرلماني في تونس، الذي اتضحت عيوبه، وفي مقدمتها إسهامه المحوري في انعدام الاستقرار السياسي، إضافة إلى ضعف الأداء التشريعي والرقابي للمجلس النيابي، ومضيّه في الصراعات الحزبية، وإسقاط الحكومات التي لا تتناسب مع منطق المحاصصة وهاجس الغنيمة. وفي الأثناء، تم تجاهل طبيعة الثورة ومطالبها، ولم تتحقق الديمقراطية الاجتماعية، والفئات المحرومة لم تستفد شيئا طوال 10 سنوات. والتنسيقيات الاحتجاجية في معظم المحافظات التونسية، حسمت أمرها بخصوص سياسة المماطلة والتسويف. وهي على قناعة تامة بأنها أعطت منظومة الحكم ما يكفي من الوقت بدون جدوى. وعِوض معالجة القضايا الاجتماعية، ومشاكل الناس، أدارت حكومات ما بعد الثورة ظهرها لمعاناة الشعب، واتبعت المنوال التنموي نفسه، الذي أفضى إلى اختلال الديناميكية الاقتصادية، وانهيار الطبقة الوسطى. وتقلبات الأوضاع السياسية، وما شهدته البلاد من عدم استقرار، أثّر بشكل واضح على بنية مواردها المالية داخليا وخارجيا. في وقت استفحلت فيه الأزمة السياسية، واكتفت الأحزاب بالتناحر الأيديولوجي، الذي شوّه المشهد السياسي، واهتمت بمعاركها الانتخابية وحساباتها الفئوية الضيقة على حساب مصلحة المجتمع والدولة.
حرية التعبير مع واقع التجويع وسياسة التهميش الاقتصادي، لا تعني شيئا بالنسبة للشعب، فالديمقراطية السياسية لا معنى لها بدون ديمقراطية اجتماعية. لأن الأمر سينتهي إلى مأزق اجتماعي وصدام غير محسوب العواقب. وهذا ما يحصل في تونس الآن، ويؤشر إلى شتاء ساخن مأتاه غضب شعبي متفاقم، نتيجة سوء اختيارات اجتماعية واقتصادية، لا تستوعب طاقات المجتمع، وتدفع بعدد مهم من الشباب نحو الهجرة غير النظامية، أو الانتحار أو الانحراف والإجرام، أو الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية. ويبدو أن السياسيين الذين حكموا بعد الثورة اعتقدوا بأن الحريات لا تزعج، وربما تساهم في التخفيف من حدة الحنق الاجتماعي. وظنوا أن شعار» اُصرُخ كما تريد ونحن نفعل ما نريد «ضمانة لاستمرار التموقع، وتكريس ثقافة الغنيمة السياسية. ونسي هؤلاء أن الحركات الاجتماعية هي النواة الصلبة للثورة التونسية. وقد اندلعت ضد اليأس واللامبالاة السياسية، ونهج التحقير والتهميش التنموي. والدوافع ذاتها تراكمت عقدا من الزمن، وهي جوهر الحراك المندفع هذه الأيام بغضب مضاعف، لم تعد تجدي معه سياسة المغالطة، وسرديات الحوار والتمويه، والوعود الكاذبة.
عِوض معالجة القضايا الاجتماعية، ومشاكل الناس، أدارت حكومات ما بعد الثورة ظهرها لمعاناة الشعب
التفاوت التنموي الشاسع بين المناطق الساحلية، وبقية جهات الجنوب والوسط أدى إلى تقسيم البلاد. وسياسة المركزية والإجحاف، جعلت المناطق الداخلية المهمشة في تبعية للعاصمة وللمدن الشاطئية، ومنطق التمييز الإيجابي الذي نص عليه الدستور الجديد «الثوري جدا» لم يُترجم عمليا. وبقيت المحافظات المنتِجة للثروة الفلاحية والبترولية والمعدنية غير مستفيدة إطلاقا. وغياب المشاريع التنموية في هذه الجهات، واستمرار تبعيتها للمدن الساحلية، وللعاصمة المركزية، والنزوح المتزايد للعمالة الرخيصة، بعد أن انعدمت أمامها مواطن الشغل في جهاتها المحرومة، أضحى من المسلمات والثوابت الاقتصادية والاجتماعية ضمن التوجهات الوطنية، التي لم تتم مراجعتها، أو محاولة تدارك تبعاتها على المستوى الاجتماعي، بعد سنوات من الثورة. وما سُمّي التكامل والتضامن بين الجهات الذي طُرِح سنة 2007، ومن ثم فصل التمييز الإيجابي للجهات المنكوبة، الذي نص عليه دستور الجمهورية الثانية، لم يُتَبن مؤسساتيا، ولم تتوفر الإرادة السياسية لتفعيله، واكتفت الدولة بآليات التشغيل الهش والظرفي، بعيدا عن أي رؤية تنموية حقيقية. وليس مستغربا أن تُفضي استراتيجية التهميش الممنهجة للمناطق الداخلية إلى الانتفاضات المتصاعدة، التي تجتاح العديد من الولايات التونسية، خاصة أن سياسة التمييز لفائدة الأقاليم الساحلية التي تحولت إلى سياسة دولة ضد مناطق الهامش منذ ما يزيد عن أربعة عقود، تواصلت بعد الثورة. وهذه الجهات المحرومة التي أسقطت نظام الحزب الواحد القائم على الطغيان والاستبداد، انتظرت أن تتغير أوضاعها الاجتماعية. ولكن سياسة التهميش تضاعفت، واستمرت الحكومات الليبرالية اليمينية في إعطاء الأولوية لتنمية المدن والجهات الساحلية، بهدف تعزيز قدراتها التنافسية في إطار الاندماج مع سياقات العولمة، وهو الخيار الرسمي للدولة منذ التسعينيات، والمنصوص عليه في المخططات التوجيهية، التزاما باتفاقيات التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي، في وقت لم تنعكس فيه علاقة الشراكة مع هذا الاتحاد إيجابا على التنمية الوطنية. فانصهار تونس في منظومة العولمة ودخولها منظمة التجارة العالمية، أضر بقطاعات إنتاجية مهمة أبرزها، قطاع النسيج والصناعات التحويلية. وخسرت الدولة الكثير، والشعب لم يستفد من خيار الانفتاح الاقتصادي وسياسة الليبرالية.
ولم تخدم هذه المسارات سوى أقلية متنفذة مرتبطة بالمصالح الأجنبية، وضعت يدها على قطاعات منتجة للثروة، تملّكتها بشكل متوارث، واستغلت تخلي الدولة عن دورها المركزي في التخطيط الاستراتيجي في المجال التنموي، ومراعاة التوازن الطبقي والجهوي. الدولة أقرّت بعد الثورة بحالة التفاوت الجهوي الشاسع، وبأن مناطق بعينها تم إخضاعها إلى الهيمنة الاقتصادية لفائدة مناطق أخرى. ووُضِعت على هامش الحركية التعصيرية بفعل تحويلها إلى خزان لليد العاملة الرخيصة، الموضوعة على ذمة المهن الوضيعة. واستراتيجية الدولة القائمة على التهميش والتمييز المناطقي، لا مبرر لاستمرارها. وعلى أصحاب السلطة أن يضعوا حدا لواقع البلاد المقسمة اقتصاديا وطبقيا قبل أن يفوت الأوان، مهما كانت طبيعة الإكراهات الداخلية والخارجية. لأنه من المخجل الحديث عن ديمقراطية في غياب العدالة الاجتماعية وتفاقم الهوة تنمويا وجهويا، والاستمرار في التفريط بمصالح الدولة لفائدة الأطراف الأجنبية والعائلات المتنفذة في الداخل.
كاتب تونسي