تجربة العبيد التي «هنااااااك»

حجم الخط
0

وضع حافره في فتحة الباب لكي يحول دون إغلاقه:
– أتركْ الباب مفتوحاً، سندخل معك الآن.
ليل كثيف مثل هذا، من سيسمع فيه اعتراضك على زيارة هذا الحافر. قَلَبَ أشياء المنزل، وحاول إقناع الطفلة الصغيرة بأن سنتها الثالثة كفيلة بجهلها إدراك ما يجري أمامها. لأبيك أصدقاء كثر يحلو لهم غزو البيت على هواهم. تشبثتْ بعلبتها وبطاقاتها التذكارية. ودافعت أمها عن لوحة (اليد) الزيتية التي أوشك الحافر على مصادرتها. كان يعرف أن من رسمها هو الفنان عبد الله يوسف عن صديقنا الذي قتلته تروس مصنع الألمنيوم (ألبا). «تبت يدا أبي لهب وتب» كان الغبش قد بدأ في زخرفة الضوء الشاحب خارج المنزل. العربات الداكنة المتوقفة أمام البيت تبعث على الشعور بأن ثمة نفقا يبدأ من باب العربة، ستظل الرسائل التي استلمتها مؤخراً تنتظر جواباً. أصدقاء كثيرون في مدن مختلفة سيعرفون لاحقاً أن رجال البريد سينتظرون طويلاً هذه المرة.

٭ ٭ ٭

يغمس يده في الإسمنت الأخضر ويلطّخ رقبته. كمن يريد أن يصنع تمثالاً لنفسه. يسأله الأب ألا يتأخر يوماً عن العمل. فإذا لم تشتغل منذ الآن لن تنال حقك أبداً. لم يكن الصبي يدرك الحق الذي يشير إليه الأب. لكنه حين يعود في المساء مزخرفاً بالطين والعرق ويكاد أن يسقط من التعب، يحنو عليه الأب، ويسرد عليه مشاعر العبيد التي كانت تنتابه عندما ذهبَ للعمل في جزيرة (زكريت) في قطر الأربعينيات من القرن العشرين، باحثاُ عن لقمة العيش للعائلة. «كان سقوطاً من الثعابين، كانت الشمس لا ترحم، والبحر هو غذائنا الوحيد. لم يكن لنا مفر من جزيرة الفولاذ المنصوبة في عرض البحر. كأننا لم نفارق الغوص أبداً. بحر ثقيل تكاد تجاعيده تنطوي علينا واحداً بعد الآخر. ومن يسقط أثناء العمل في البحر لن يجد فرصة للنجاة، حيث أسماك القرش تنتظر هناك جائعةً، تحرس العمل من فرار العبيد. وها أنت تريد أن تخبرني عن التعب» كان أبي يحدثني عن التجربة.

٭ ٭ ٭

يدخل البدو بخيولهم ساحة العرس، يخوضون في أحضان النساء اللواتي جلسن حول العروس يضعن لها الحنّاء في الكفين والقدمين، فتطفر أواني الحناء لتصبغ حوافر الخيل، ويتفجّر الدم من الأجساد المشدوخة بالحوافر، ويسيل على الأرض التي كانت ترتعش لفرط المباغتة ووطأة الخيل والخيالة. تصرخ العروس بزوجها المنتظر، لكنه لا يكاد يظهر، يعرف لاحقاً أنه لم يكن لرجلها أن يدبّ على الأرض بساقين مرضوضين لفرط وطأة الحوافر خارج الدار. فسمعت صوته منتحباً وهو يزحف مثل كائن مشلول، تركض نحوه، لكن حصاناً طائشاً سوف يدهسها ويفضخ صدرها ليرديها ملطخةً بالدم، تعفر مثل عصفور مذبوح. لحظتها تكون النساء قد عرين أجسادهن أمام الرجل في محاولة لإعلان الفضيحة، لكن أجساد النساء العارية أثارت الأحصنة وهيجتها. فأطلقت صهيلاً يشبه العواء وهي تقتحم الأجساد الأنثوية ملتحمة بها بوحشية، حوّلت ساحة العرس مشهداً من أخلاط الأجساد التي صارت بغتة كائنات من البشر والحيوانات، يتفصّد منها الدم والعرق، وتفيض بها فيوض الفضة. وعندما تمكن الزوج المنتظر من الوصول زاحفاً إلى جسد عروسه، كانت الساحة قد فرغت من الخيول، وهدأت الأجساد، وسيطرت الوهدة على المشهد. فسمع الزوج في صدر العروس المتفطّر نبضاً صغيراً مثل قلب جنين في مكانه.

٭ ٭ ٭

دفعت ظهره يدٌ قوية رمته على أرض المكان. وصفَقوا خلفه الباب المشغول من حديد قديم وخشب جديد. بذل جهداً لكي يفتح عينيه في الظلمة. ظلمة كثيفة تكاد تطبق على جفنيه مثل رماد رطب بارد. سحب جسده المضروب حتى أقرب جدار، أسند ظهره عليه، فلسعته برودة عرف منها أن ثمة قميصا مفقودا ترك جسده عارياً. لمس بأصابعه ركبتيه فغطست في لزوجة دم متخثّر تقريباً. فعندما تذكر آخر اللطمات التي فجرت صوتاً وألماً عميقين في أذنه اليمنى، ترك أعضاءه لما يشبه الانهيار، لكي تأخذ أقصى ما يمكنها من الارتخاء العضلي، استباقاً لما يمكن توقعه لاحقاً.
تناوب على جسده ثلاثة أشخاص، يوجهون له أسئلة بالأيدي والأدوات، وهو يستعرض لهم كل الأجوبة التي يتوقعونها، دون أن يختاروا شيئاً منها. قالوا إنهم يبحثون عن الحقيقة، فأخبرهم إنه هو أيضاً يبحث عنها. لولا أن الظلمة سوف تحول دوماً دون العثور على أي حقيقة يشتهي أن يتوصل لها الإنسان. لكنهم اعتبروا ذلك دعابة ليست في مكانها، فشعر بكل أشجار الغابات وسعف النخل وأحجار الجبال وحديد المناجم وأمواج البحر ومخالب الجوارح وحوافر الوحوش وأنياب الضواري يستفردون به، ويتبادلون جسده شلواً شلواً. تصرخ به الجدران وتصيح فيه الأبواب والنوافذ. وهو ساهمٌ سادرٌ وغير موجود تقريباً. فقد استحوذت عليه جنيّة سلبت روحه وطارت به تجوب غرفاً في صدور أصدقاء له في القرى والمدن، يشهقون مع قلبه ويعضدون له الروح ليقدر الجسد على التجربة. واستحضر في برق العذاب أصدقاء التجربة في خريطة العرب، عبد اللطيف اللعبي في الرباط وسميح القاسم في فلسطين وإبراهيم الحضراني في تعز وسعدي يوسف في بغداد. استحضر تلك التجربة التي رواها له أبيه كثيراً. تجربة العبيد.

شاعر بحريني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية