سبق للفنان الهولندي يوس دينن، أن استفاد من تكوين أكاديمي في مدرسة الغرافيك في أوتريخت، حصل بموجبه على دبلوم مهني كمحترف مطبعي. وعقب سنوات من البحث والتنقيب، أنشأ محترفاً كبيراً Grafisch atelier من المواد البصرية والصور الفوتوغرافية المتنوِّعة، التي أصبحت لاحقاً سنده الرئيس في الخلق والإبداع، باعتماد تقنية الفوتومونتاج التي وسمت أعماله الفنية المعروضة في هولندا وبلجيكا وألمانيا وعديد من البلدان الأخرى. وقد جالست الفنان قبل أعوام قليلة داخل هذا المحترف الفني التخصُّصي، وسط مدينة فينلو الواقعة جنوب هولندا، غير بعيد عن الحدود مع ألمانيا.. داخل هذا الفضاء الطقوسي يمارس الفنان دينن عاداته الإبداعية اليومية مؤازراً من طرف زوجته السيدة الوديعة ماريانا، التي لا تفارقها الابتسامة العفوية، والترحاب التلقائي بكل ضيف وافد.
فضاءٌ منظم بشكل احترافي جيِّد، إذ يضمُّ رفوفاً مرقمة تضمُّ كمّاً وافراً من المجلات والأرشيف الأيقوني، وأخرى تحتوي على البطاقات والملصقات والأسطوانات والكاتالوغات الفنية، إلى جانب ماكينات للطباعة والنسخ الضوئي والسحب، فضلاً عن مجموعة من الأعمال الفنية المؤطرة والمعلقة داخل المرسم، وهي تؤرِّخ لفترات إبداعية متباينة.
مداعبة الورق
مَجَّدَ الفنان دينن كثيراً للصورة الورقية جاعلاً منها مادته التعبيرية الأولى، وقد اختار الفوتوكولاج Photocollage كفن وكتقنية، ذلك أن أعماله الفنية تبرز لديه في شكل فضاءات جمالية يتصدرها الورق وقصاصات الصحف والمجلات، كمادة رئيسية تجسِّد معالمه التعبيرية والرمزية، وكسند للاشتغال اليومي. فهذه التجربة الفنية تمتح خصائصها التعبيرية من رحم فن الكولاج الذي ظهر كتقنية تشكيلية قام عليها الفن الحديث من خلال تجربة الفنانين التكعيبيين بابلو بيكاسو (1881- 1973) وجورج براك (1882- 1963) اللذين استعملا الكولاج في رسم وتلوين الطبيعة الصامتة بطريقتهما التعبيرية الخاصة لخلق المزيد من الإثارة البصرية، فاتحين المجال واسعاً أمام بعض الفنانِين السيرياليين والدادائيين وفناني البوب آرت الجدد الذين أعطوا لهذه التقنية أبعاداً جمالية أخرى مثيرة للدهشة، بإلصاق أشياء غير متآلفة، منها إدماج النفايات والأشياء المهجورة، وتذاكر الأتوبيس وأدوات الطبخ، وآلات الموسيقى واستعمالها في تشكيل القطع الفنية. فالتكعيبيون استنبطوا الكولاج ووجدوا فيه طريقة تعبيرية جديدة، لاكتشاف التباين بين الشبيه والحقيقة. كما تطوَّر أسلوب الكولاج في القرن العشرين مع الفنانين الفرنسي هنري ماتيس والبريطاني ريتشارد هاميلتون والأمريكية جان فرانك والألمانية هنا هوش والبريطاني بيتر بليك.. وغيرهم كثير.
غير أن الفنان دينن، وبشكل مقنِع ومختلف، نجح في منح فن الكولاج، أو الفوتوكولاج أبعاداً جمالية وتعبيرية مُغايرة، بفضل المهارة الإبداعية العالية التي يتمتع بها والتي جعلت جل إبداعاته أقرب إلى الملصق السياسي، باعتباره سلاحاً ثقافيّاً وتعبيرياً يستطيع المبدع بواسطته أن ينجح في إيصال رسالته ومواقفه النبيلة حول قضايا اجتماعية وسياسية وإنسانية كثيرة، كالعدالة والديمقراطية والسلام، ونبذ العنف والعدوان، إلى جانب مواضيع أخرى متصلة بالأخلاق الجنسية، والتعصب الديني، فضلاً عن الرق وظاهرة العبودية، واستغلال الإنسان، وأيضاً سؤال التحرُّر والانعتاق الذي طالما تحدَّث عنه فلاسفة معاصرون، كميشيل فوكو، من خلال معالجته لمواضيع مثل الإجرام والعقوبات والمراقبة والممارسات الاجتماعية داخل المؤسسات السجنية.
القطع الفنية التي يُبدعها ويركبها الفنان يوس دينن بأساليب تعبيرية ساخرة تهتم بالإنسان لتعالج بأياد مبصرة العديد من القضايا الأساسية في حدود أبعادها الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، على إيقاع خرائط الورق ونحت جسد الصورة ومداعبة المقص بمهارة يدوية فائقة تنتصر للإنسان وتخلد قيمه ووجوده داخل عالم بشري بشع ومخيف.
بين عين المقص.. ومقص العين
ما الذي تنطق به أعمال الفنان دينن؟ وما الذي تريد أن تقوله؟
الرَّاجح أن كل عمل فني من أعمال هذا الفنان الشغوف بجمع الصور وتركيبها، يجسِّد قصة معينة.. وكل قصة تحكي قضية من القضايا الإنسانية الكبرى التي يعالجها بتقنيات فنية متنوِّعة ودقيقة: يقطع ويلصق، يرسم ويصبغ، يطوي، يركّب ويثني مستعيناً بأدواته الخاصة، وبحاسوبه الصغير في بعض الأحيان.. إلى غير ذلك من الصيغ التعبيرية التي تبرِّر نزوعه نحو تقديم الواقع في صورة لامرئية، لكنها بالتأكيد مستوحاة من الواقع ونقيض له. من ثمَّ عُدَّ فنه مرآة للسياسة ووجهها المقيت، الذي يتمُّ فضحه بمعالجة مواضيع محظورة قريبة من أفراد الشعب، ومعبِّرة عن همومهم ورهاناتهم وصراعاتهم اليومية مع الفقر والبطالة والاعتقال التعسفي، وأزمة السكن والشطط في استعمال السلطة وغلاء المعيشة.. إلى غير ذلك من القضايا المجتمعية التي قاربها بحسٍّ إبداعي ساخر. هذا الحسّ يَسِمُ الكثير من إبداعاته، حيث يتلاعب بصور يختارها بعناية أغلبها لنساء ورجال السياسة من داخل وخارج بلده، كنوع من السخرية الأيقونية لنقد بعض البرامج والسياسات الفارغة البعيدة عن هموم ورهانات الناس. بهذه الإبداعات يُمارس الفنان يوس دوره كمبدع عضوي واع بمسؤوليته الإبداعية والجمالية ومسخِّراً إمكاناته الفنية من أجل التغيير.
لقد لعبت الصورة والصدق التعبيري، إضافة إلى الأسلوب الفني دوراً أساسيّاً في تفرُّد الفنان دينن في تحريك مشاعر المتلقي وجعله يقترب من موضوعات أعماله الفنية وتترسَّخ في ذهنه شيئاً فشيئاً، بل توريطه وإشراكه أحياناً في ما يقدِّمه من إبداعات تعبيرية.. وتعبيرات إبداعية راقية تتميَّز بالقوَّة على الإظهار والتأثير والذيوع والانتشار داخل مجال تواصلي مركب وواسع يعرف بـاسم «الصورلوجيا» Imagologie، وأيضاً بـ»علم الوسائط» الذي تناوله ريجيس دوبري في مؤلفه «حياة وموت الصورة».
نحت جسد الصورة
ولأن «الوسيط هو الرسالة» كما يقول مارشال ماك لوهان، أحد رواد الوسائطية، فإن رسائل الفنان دينن تنبعث من عمق وسائط أيقونية خاضعة لزمن العين، لكنها أيضاً ممتدة لمهارة اليد والأداة والوسائط الآلية التي حققتها الطفرات التكنولوجية المتتالية. شاهد ذلك عديد الأعمال الفنية التي تناولت مواضيع اجتماعية وسياسية متنوِّعة، منها على سبيل المثال لا الحصر لوحة Ik heb haar gezien’ (2005) التي تعني بالحرف «لقد رأيتها» وتجسِّد رؤية جديدة نحو العالم. هذا العمل الفني هو اشتغال على لوحة «أصل العالم» (1866) لرائد الواقعية في الفن غوستاف كوربيه، التي تمثل جسد امرأة دون رأس أو ذراعين أو ساقين، وفي قلب اللوحة تفاصيل تشريحية لفرج أنثوي.
لقد جعل الفنان دينن من لوحة كوربيه المذكورة مشهداً إيروسيّاً ملازماً لرسالته الأصلية، حيث جسَّدها بمعنى مواز، إلى جانب الكثير من الأعمال الفنية المماثلة التي ظهر فيها بعض نساء ورجال السياسة مسوخاً ممطوطة ومجرورة، بل ضمن توليفات بصرية هزلية وميثولوجية. دون الحديث عن أعمال أخرى ينبذ من خلالها الفنان مظاهر الإكراه والتسلط الذي يؤدِّي غالباً إلى توليد مشاعر البغض والضغينة والضعف والهوان والاغتراب.
هو هكذا استثنائيٌّ داخل محترفه، يعيش ويتعايش بنبل مع الورق سنده التعبيري الرئيس الذي صار متنفسه ومادته الإبداعية الأولى التي يشكل بها عوالمه ومواضيعه التي يسودها العمق الإنساني الممتد لفكر وثقافة الفنان..
ولا شك، إذن، في أن القطع الفنية التي يُبدعها ويركبها الفنان يوس دينن بأساليب تعبيرية ساخرة تهتم بالإنسان لتعالج بأياد مبصرة العديد من القضايا الأساسية في حدود أبعادها الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، على إيقاع خرائط الورق ونحت جسد الصورة ومداعبة المقص بمهارة يدوية فائقة تنتصر للإنسان وتخلد قيمه ووجوده داخل عالم بشري بشع ومخيف يعجُّ بالاضطهاد والاستبداد وحالات الموت والدمار والصراع المتجدِّد على السُّلطة. إنه الوجه السلبي للحياة المعاصرة التي يمقتها هذا الفنان المتواضع وينتقدها بفن حقيقي، ثاقب، جاد، ساخر، وملتزم يرُوم فضح أخطاء التاريخ ويسعى إلى التغيير وخلق واقع (مرئي) بديل مفعم برسائل قوية تدافع عن الإنسان وحقه في الحلم والحياة..
تحية كبيرة لهذا الفنان العظيم..
ناقد تشكيلي من المغرب
مادة رائعة قاربت منجز الفنان بشكل معرفي ومقتدر ، تحية للناقد لكبير الاستاذ ابراهيم الحيسن في تقديمه لتجارب متميزة والتعريف بها