على أبواب السنة الجديدة، أحاول استعادة محطات تركت أثرها عليَّ ،بدءاً بالكائنات التي تشاركنا الحياة على هذا الكوكب، مروراً بالثورة، وأخيراً العلاقة بالموت والزمن.
الإنسان قد يكون حيواناً
منذ صغري أعاني من رهاب القطط، إلى أن جاء هذا الصيف قط صغير إلى حديقتنا، طلباً للطعام والحنان بعد أن نبذته أمه. ليس هناك من لغة مشتركة يشرح فيها القط حكايته، ولكن الشعور بأنه منبوذ أو يتيم جعلني أتعاطف معه، ونظرة الاستغاثة في عينيه حملتني، رغم خوفي، على مساعدته. وبعد أن أعطيته اسماً وبدأ يستجيب له، بدأت علاقتي به تصبح أكثر حميمية، ورويداً رويداً بدأ يجد أمكنته الخاصة في الحديقة والبيت ثم قلبي. وبدأت أكتشف نبعاً من الحب في داخلي، لم أكن أعرف بوجوده، ولكنه بدأ يتدفق حتى طاف به قلبي.
حب لا يشبه حب الأولاد، فالحيوان طفل أبدي ويحتاج رعايتك دائماً. وهو لا يشبه حب البشر، فالحيوان لا يخونك ولا يهجرك، إن تقدمت في العمر، أو خفت جاذبيتك.
صحيح أن الإنسان قد يكون حيواناً، لكن الحيوان ليس إنساناً، فهو لا يأكل إذا شعر بالشبع، ولا يقتل أو يفترس من أجل متعته الشخصية، وحده الإنسان يفعل. وليس صحيحاً أن الحيوانات الأليفة هي ترف الأغنياء، فأعمق العلاقات مع الحيوانات هي التي يعيشها المشردون في أوروبا، الذين قد لا يجدون طعاماً يأكلونه، ولكنهم لا يتركون كلابهم تجوع، فالحيوان بالنسبة للمشرد هو البيت والعائلة والصداقة والحب، أي كل ما فقده كمشرد، وكل ما يحتاجه كإنسان.
في النهاية سأعترف بأن تغيرات كبيرة طرأت على حياتي، منذ أن دخلها القط الصغير، فقد اكتشفت أن مخاوفنا هي مجرد أوهام نصنعها بأنفسنا، ربما جدار الخوف من السلطة السياسية، استطاعت الثورات أن تسقطه في داخلنا، لكن مخاوفنا الأخرى وحدنا نستطيع إسقاطها. «ليسقط خوفنا» أكتبها في نهاية هذه السنة على كل الجدران، التي كانت تحاصرني في كل مكان.
لا تسلم أزهارك إلى جنائني
الطبيعة فصول وأمزجة ودروس، وقد علمتني الطبيعة هذه السنة أن النباتات لا تموت عندما تصاب أطرافها باليباس، بل تغيب جزئياً عن الوعي، وقد تكفي أحياناً لمسة حب مع رذاذ خفيف من الماء يشبه المطر، ومقص يقلم أظافرها بلطف، وستعود حينها من غيبوبتها، وستجيبك بكلمة شكراً، تتفتح برعماً في أطرافها. وليست النباتات أدوات زينة وحسب، فهي تتنفس لنحيا نحن كائنات الأرض، ولها أرواح تتعانق، وتصادق وتغضب، وتحزن. وهي تشعر بالحب وتبادله، ولكنه حب يشبه الكهرباء، وأي إساءة في استخدامه قد تكون قاتلة، لذلك لا تترك حديقتك لجنائني، فالأزهار كالأطفال لا تستطيع مربية أن تمنحهم حنان الأم أبداً. وفي النهاية عندما تموت الأشجار تكون وحيدة، لكنها تموت واقفة.
الموت صديق طيب يختار أجملنا ونطلب أجمله
كان لنا هذه السنة موعد آخر مع الموت، فقد رحل عمي في منفاه الألماني، الذي عاش فيه أكثر من خمسين سنة، مضى من دون أن تعرفه أجيال كاملة في العائلة، إلا من خلال صورة في إطار فضي في بيت جدي، الذي تعب بدوره من انتظار عودة الابن المنفي وخروج الابن السجين، فصمت طويلاً قبل موته، واكتفى بالشعر يقرأه علينا كمن يقرأ وصيته: «تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد». وهكذا هي الحياة تمضي بنا ونحن ننظر إلى موتنا مواربة، ولكن كل موت يقترب من أحبتنا، يأخذ بعضاً من روحنا، ويضعنا في مواجهة مباشرة مع الموت. يقولون في اللهجة الدمشقية، «تشكل آسي»، أو «تقبرني»، وهي عبارات لطالما استنكرت قسوتها، ولكنني وأنا أرى العائلة تضيء شمعة الغياب في عيد ميلاد عمي، أفهم معنى أن يقبرك من يحبك، ويتذكرك بعد موتك، ويعيد الاحتفال بمولدك وكأنك لم ترحل. فلا يموت الإنسان حقاً إلا عندما يموت في ذاكرة محبيه، ولهذا وحده الحب قادر على هزيمة الموت.
لا حجارة سوداء في المنفى الألماني، ولكن عزاءنا أن أبواب المقبرة البعيدة مشرعة حتى للغرباء، أما قبور عماتي اللواتي قضين نحبهن في حمص خلال الثورة، فلا طرق تقود إلى قبورهن المجهولة.
كتب أحمد بخيت: «الموت ليس سوى صديق طيب يختار أجملنا ونطلب أجمله»، ولكن ما هو الموت الجميل؟ هل هو ذاك الذي يأتينا ونحن نيام؟ أم في أحضان أحبتنا؟ أم عندما يستريح الرأس أخيراً في مسقطه؟ لا أعرف كلمة تناسب الموت في أرض غريبة، ولكنني أعرف أن عمي طلب في آخر أيامه أن يعود إلى البيت، وكان يقصد بيت جدي في جارة العاصي. وفي النهاية مات عمي من دون أن يتكئ في غفوته الأخيرة على حجر من حجارة مدينته حمص، كما حلم شاعرها المهاجر نسيب عريضة:
«عد بي إلى حمص ولو حشو الكفن واهتف أتيت بعاثر مردود
واجعل ضريحي من حجار سود».
لا حجارة سوداء في المنفى الألماني، ولكن عزاءنا أن أبواب المقبرة البعيدة مشرعة حتى للغرباء، أما قبور عماتي اللواتي قضين نحبهن في حمص خلال الثورة، فلا طرق تقود إلى قبورهن المجهولة.
طريق الحرية يمر عبر بيروت
ربما يسمونها صدفة، لكن للثورات مواعيدها، وهكذا حدث أن كنت في بيروت في عيد الاستقلال، ووجدت نفسي في ساحة الشهداء، وسط حشود غفيرة لا تتدافع رغم الازدحام، بل تتبادل ابتسامات الأمل، وقد استعادت ساحات مدينتها، يومها كنت مندسة سورية بمحض الصدفة. إلى جانبي كانت تقف امرأة خمسينية لا تتوقف عن التصفيق، أثناء مرور العرض المدني للاحتفال، حتى جاء دور المغتربين، عندها توقفت المرأة عن الهتاف واتصلت بابنتها مكالمة مرئية، واستطعت أن ألمح الابنة بطرف عيني وهي تصفق من مكان بعيد عن الساحة وأهلها. وعندما هتف المغتربون «توت، توت، لح نرجع على بيروت»، بكت الأم وابنتها وطناً تحول أبناؤه إلى مشاريع سفر وعقود عمل في الخارج، وبكيت أنا «السورية» بلادا على مرمى حجر، ويستحيل الرجوع إليها.
ومع ذلك لم أكن غريبة في ساحة الشهداء، بل شعرت بأن هذه الثورة ثورتي، فالثورات فصول تتابع، وما بدأ في سوريا يكتمل في لبنان، و»الحرية» التي كانت شعار المتظاهرين الأول في «سوريا الأسد» صارت «ثورة» في 17 تشرين الأول اللبناني. وصرخة النساء السوريات المكتومة في السجون الأسدية، أطلقتها حناجر اللبنانيات اللواتي نزلن الساحات لإسقاط السلطات السياسية والطائفية والذكورية، أما «يلا إرحل» بنسختها السورية، فقد صارت نشيداً عابراً للحدود، و»يلعن روحك يا حافظ»، استحضرها اللبنانيون في «هيلا هو». حتى مصطلح «الشبيحة» السوري لم يجد اللبنانيون أبلغ منه في وصف من يريد إسكات صوتهم واتهامهم بالخيانة والعمالة، ولا عجب في هذا، فنظام الاستبداد واحد في البلدين.
في المقابل السجون السورية التي كانت تحتجز المعارضين السوريين واللبنانيين، صارت مصارف تحتجز مدخرات الشعبين، وكأن شعار «وحدة المسار بين البلدين» يجد ترجمته الفعلية في وحدة المسار نحو الانهيار الاقتصادي.
اليوم وبعد مرور أكثر من شهرين على زيارتي الأخيرة، تبدو بيروت بعيدة عن الأجواء الاحتفالية، ولم يعد الثوار يتظاهرون في الساحات، بل قرب مجلس النواب، الذي تقمعهم شرطته، وقرب البنوك التي استولت على أموالهم. ومع أن لبنان يختنق اليوم بقنابل الغاز، بعد أن كان الكوة التي يتنفس منها السوريون بعضاً من حرية، لكن مصير السوريين ما زال مرتبطاً بمصير جيرانهم، الذين يخوضون معركتهم الكبرى اليوم لاستعادة وطنهم المنهوب.
وفي نهاية المطاف الشعب لا يريد فقط، بل يستطيع.
كل صباح تكذب عليَّ المرآة، وتخبرني أنني لم أتغير إلى هذا الحد، وقد مضى من العمر نصف قرن، لكن عندما تأخذني قدماي إلى الصفوف الخلفية في درس الرقص، أعرف أنها بداية الاعتراف، بأن التقدم في العمر يدفعك حتماً إلى الصفوف الخلفية في الحياة.
على عتبة الخمسين
قرأت يوماً بأننا نبدأ بالتقدم في العمر عندما نتوقف عن الخوف من العمر، ولكنني ما زلت أخاف العمر وآثاره. وها هي سنة 2019 تمضي وتتركني على عتبة الخمسين، وبعيداً عن كليشة «العمر لا يقاس بعدد السنين»، فأنا أشعر بآثار العمر على جسدي ومزاجي وأسلوب حياتي. بداية أحاول التأقلم مع تغييرات الجسد وبطء استقلابه، وتعلمت مسايرة الميزان الذي تحول إلى منصة محاكمة يومية، أما الشحم الذي بدأ يتكوم حول الأرداف، فلم تعد كلمة أنثوي تشفع له. ورغم أنني أتلصص أحياناً على خزانة ابنتي، وآخر صيحات الموضة فيها، إلا أن خزانتي مازالت تحتوي على الكثير من الفساتين، التي لم أفقد الأمل في أن أعود إليها، أو تعود هي إلى جسدي الذي غيرته السنوات.و وفي المقابل كل محاولات التخلص من الأوزان الفائضة باءت بالفشل، بدءاً بالريجيم النباتي وريجيم الشحوم، وصولاً إلى خيانة القهوة الصباحية، وانتهاءً بالتسليم بالكلمة العليا للهرمونات في هذا العمر.
عمر أشعر به أحياناً معكوساً مع ابنتي المراهقة، من دون أن أستطيع حقاً إسداء النصح لها، فدليل الاستعمال والإرشادات الطبية أصبحت في متناول هاتف ذكي يمتلك كل الأجوبة.
أما أنا وسواي من أبناء الزمن الغابر الجميل، فلا تستطيع النافذة الرقمية وحدها أن تفتح لنا أبواب السماء، ولا بد من ملمس الورق ورائحته، ليتسرب النور إلى العقل والقلب.
أما النور الطبيعي فقد أصبحت أتجنبه، فالشمس التي كانت رفيقة عمري، أصبحت آثارها السلبية أكثر مرئية من إشعاعها الداخلي في روحي. وعندما أسمعهم يتكلمون عن بوتكس للتجاعيد، أتساءل ببراءة عن بوتكس الروح، وأنا أبتسم للخطوط العميقة أسفل العين، ثم أرش البودرة السوداء من المكحلة التي اشتريتها قبل ثلاثين سنة، عندما كنت صبية تتلمس أنوثتها لأول مرة.
وهكذا كل صباح تكذب عليَّ المرآة، وتخبرني أنني لم أتغير إلى هذا الحد، وقد مضى من العمر نصف قرن، لكن عندما تأخذني قدماي إلى الصفوف الخلفية في درس الرقص، أعرف أنها بداية الاعتراف، بأن التقدم في العمر يدفعك حتماً إلى الصفوف الخلفية في الحياة.
كاتبة سورية
السيدة المحترمة آية الأتاسي، هل اسم عمك عبد الكريم؟
تختارين ابسط المواضيع او هكذا يُخال لنا في البداية واذ بك تجعلين منها قوس قزحٍ وسمفونية لا نريد لها ان تنتهي ، وهذا مايميز كاتباً عن سواه .