تداعيات شخصية عن زنجبار بمناسبة جائزة نوبل

حجم الخط
0

نحن الذين نعيش في بلاد الشام، عندما نتكلم عن إنجازات الحضارة العربية الإسلامية، نتحدث عن امتدادها في عالم المتوسط من دمشق إلى قرطبة، ثم نتوقف. وكأن الإسلام كان حضارة متوسطية فقط، مع العلم أن حضارة المتوسط كانت جزءاً مهماً من الحضارة العربية الإسلامية، لكنها لا تستغرقها كلها، فهناك البعد الآسيوي في الهند وآسيا الوسطى وشرق آسيا. وكذلك هناك البعد الافريقي وحضارة حوض المحيط الهندي.
المتوسط عالم فقير أو يعيش على حافة الفقر، كما يقرر عالم الاجتماع الفرنسي فرنان بروديل «المتوسط والعالم المتوسطي» وبالتالي ليس بمقدوره بناء حضارة بمعزل عن المحيطات الكبيرة وأهمها المحيط الهندي. ومنذ عدة عقود نبهني نصر شمالي عبر كتاباته، أو في جلسات خاصة كانت تمتد لساعات، إلى أنه لا يمكن أن تنشأ قوة عالمية، دون أن تضع قدميها في حوض المحيط الهندي. لذلك وجهت قراءاتي في منتصف التسعينيات نحو المحيط الهندي، أول ما وقع بين يدي كتاب مهم عنوانه «الصراع العثماني ـ البرتغالي في القرن التاسع عشر» يتحدث الكتاب عن تعاون ثلاث قوى هي، المماليك الذين كانوا يحكمون مصر وبلاد الشام والعثمانيون في الأناضول وجمهورية البندقية (قوى متوسطية) لصد البرتغاليين القوة الأطلسية الصاعدة عن حوض المحيط الهندي، في أوائل القرن السادس عشر وتوج ذلك بتجريد حملة ضخمة قاتلت في معارك عديدة، إلا أن البرتغاليين هزموها في نهاية الأمر، ووضعوا قدما لهم في حوض المحيط الهندي، كما استولوا على مضيق هرمز، الذي لا تزال القوى الغربية متحكمة فيه حتى اليوم، ويتوارثون السيطرة عليه في ما بينهم كالملك العضوض، بعد البرتغال جاءت هولندا ثم الإنكليز، والآن الأمريكيون.
بعد أن أنهى العثمانيون دولة المماليك، خاضوا صراعاً طويلاً ضد البرتغاليين في حوض المحيط الهندي، وعلى مساحة جغرافية امتدت من شرق افريقيا، الذي كان يسيطر عليه العرب من موزامبيق إلى جيبوتي مروراً بتنزانيا وكينيا وجوهرة الساحل الافريقي زنجبار، وصولاً إلى الساحل الهندي، الذي كانت تحكمه ممالك إسلامية. لم يستطع العثمانيون صد غائلة البرتغاليين، لكنهم حصنوا باب المندب ومنعوا دخول البرتغاليين إلى البحر الأحمر، وخفضوا سقف أحلام البرتغاليين، الذين وصل بهم الطموح للاستيلاء على مكة، فجردوا حملة على ميناء جدة انتهت بالفشل. ثم قرأت كتاب «امبرطورية هولندا البحرية» الذي يُفصّل علاقة هولندا بآسيا ومنها الخليج العربي. وبعدها كتاب «حين سادت الصين البحار» وهو كتاب يتحدث عن ارتياد أسطول صيني بقيادة البحار المسلم جينغ هيه حوض المحيط الهندي بين عامي 1405- 1433. قام هذا الأسطول بسبع رحلات كبيرة من بحار الصين وتايوان، وحتى الخليج العربي وشرق افريقيا، حيث كان هناك فراغ بالقوة ينتظر من يملأه، فقد تراجعت قوة العرب البحرية والحضارية، ولم تكن الأساطيل الغربية قد ظهرت بعد، إذ احتاج الأمر لثمانين سنة إضافية حتى يظهر فاسكودي غاما في حوض المحيط الهندي، لكن بعد الرحلة السابعة الناجحة قرر إمبرطور الصين تفكيك الأسطول ومنع ارتياد البحر، انتصاراً لغريزة العزلة المستقرة لدى الصينيين، بل منع تصنيع أو إصلاح السفن الكبيرة العابرة للمحيطات فتبدد بسرعة هذا الأسطول العظيم، وغرقت الصين في العزلة حتى القرن العشرين، وهي اليوم تحاول كسر عزلتها عبر مبادرة الحزام والطريق، التي تطمح في جزء مهم منها إلى الوصول إلى حوض المحيط الهندي بشكل حر، وليس عبر قنوات يتحكم الغرب فيها فيفتحها أو يغلقها كما يريد، لكنها لم تنجز هذا الأمر بعد. ولو أن الصينيين ثبتوا وجودهم في حوض المحيط الهندي في ذلك الوقت لاختلف التاريخ بلا شك.

قد فعل الإنكليز كل ما يمكن فعله لاجتثاث الوجود العربي في افريقيا، وآخر أفعالهم تأييدهم لانقلاب زنجبار عام 1964، والمذابح اللاحقة بحق العرب هناك. كما أنهم عندما احتاج الأمر للتراجع أمام مد تصفية الاستعمار في كينيا مثلا، تراجعوا أمام الحركات التي قوامها من الأفارقة، ودمجوا الساحل مع الداخل كي يحولوا العرب والمسلمين المستقرين في السواحل إلى أقلية.

شيئاً فشيئاً أصبحت عمان بؤرة اهتمامي بتاريخ حوض المحيط الهندي، لأن عمان كانت هي صاحبة القوة البحرية الضخمة التي فرضت نفوذها من ممباسا حتى ميناء جداور في باكستان الحالية، مروراً ببندر عباس في إيران الحالية. وكانت سفنها تجوب حوض المحيط الهندي من شرق افريقيا إلى شرق آسيا، أما الحضارمة فقد كانوا تجاراً، نشروا الإسلام في شرق آسيا، لكن لم ينشطوا عسكرياً. مع عمان تعرفت على التاريخ العربي في جزيرة زنجبار، فقد شكلتا دولة واحدة حكمها البوسعيديون قبل أن يحصل الانفصال إلى دولتين عقب وفاة السلطان سعيد بن سلطان عام 1856 .


كنت ألتقط أي كتاب يتحدث عن حوض المحيط الهندي، حتى جاءت الفرصة السانحة، حين شاركت عمان في معرض الكتاب في دمشق، على ما أذكر في عام 2001 أو 2002. وتعد هذه المشاركة تحولاً تاريخياً للعلاقات السياسية بين سوريا وعمان، بعد قطيعة طويلة بسبب دعم دمشق لحركة تحرير ظفار قبل عام 1970. وأذكر ذات مرة أنني كنت في البحرين عام 2002 في مؤتمر طبي وضمن الأحاديث المتداولة في الاستراحات بين المحاضرات، تعرفت إلى طبيب عماني يقترب من العقد السادس عمراً ويرتدي اللباس العماني التقليدي. عندما عرف أني من سوريا سألني سؤالاً لا يخطر على بال أحد، سألني عن شخصية من شخصيات القيادة القطرية قبل 1970 هو مصطفى رستم.. فغرت فاهي مندهشاً، لأن أكثر من 90٪ من السوريين في عام 2002 لم يسمعوا باسم مصطفى رستم ولا من يكون. أجبته عما أعرفه عنه في ذلك الوقت، فقد أطلق سراحه واستقر في بلدته السلمية. لاحظ الطبيب العماني دهشتي ففسر لي باقتضاب أنه كان يتردد إلى دمشق قبل عام 1970 وكان يلتقي به..
كانت تلك أول مشاركة لعمان في معرض الكتاب في دمشق، بحثت عن جناح عمان، فوجدت كتباً جميلة مجلدة تجليداً فاخراً وبأسعار زهيدة، كتب تذكرك بكتب دار التقدم ورادوغا أيام الاتحاد السوفييتي. من بين الكتب لفت نظري كتاب «مذكرات أميرة عربية» شجعني سعره الرخيص وأناقة غلافه المجلد تجليداً فنياً على شراء عدة نسخ منه. قرأت الكتاب لساعات طويلة دونما توقف فقد كان فريداً في نوعه وموضوعه، كان الكتاب مذكرات الأميرة سالمة بنت سعيد ابنة سلطان زنجبار وعمان، وأخت السلطان اللاحق برغش، فقد أحبت ضابطاً ألمانيا وتزوجته فاضطرت لمغادرة زنجبار مع زوجها الألماني، في وقت كان الصراع محتدماً على أشده لتقاسم افريقيا بين القوى الأوروبية الكبرى، الفرنسيين والبريطانيين والألمان، عاشت سالمة «أميلي رويتي» مأساة كبيرة فقد تحولت إلى ورقة سياسية ألمانية في صراعهم مع الإنكليز والفرنسيين على تقاسم افريقيا، ثم توفي زوجها باكرا، وتركها وحيدة في بلد غريب ولا تستطع العودة إلى زنجبار واستعادة حياتها السابقة.
في هذه المذكرات تعرفت على الحياة اليومية في زنجبار، وزراعة القرنفل وعن عرب وأفارقة وهنود يعيشون في هذه الجزيرة، وعن دسائس القصر والصراعات بين برغش وماجد، وانقسام الأسرة وتأثيرات الصراعات الدولية حتى داخل أسرة السلطان سعيد. كما أن الكاتبة تقارن بين قيم وطريقة الحضارة الغربية والشرقية، بعد أن عاشت الحضارتين. وقعت في أسر الكتاب، وكنت كل عام عندما أدخل مكتبة الأسد، حيث كان يقام معرض الكتاب أتوجه إلى جناح عمان، ولا أتمالك نفسي فأشتري جميع النسخ المتاحة من الكتاب، وأقوم بتوزيعها كما كان يفعل ميل جيبسون في فيلم Conspiracy Theory الذي شاركته فيه البطولة جوليا روبرتس، حيث لا يتمالك نفسه، فيشتري نسخة من رواية معينة رغم امتلاكه عشرات النسخ منها، وبواسطة هذا الشغف تستطيع الأجهزة المطاردة له تعقبه.
تكونت لديّ مكتبة كاملة عن عمان وزنجبار فتعرفت إلى «تيب توب أو حمد بن محمد المرحبي 1840-1905» الذي قاد المستكشف ستانلي إلى منابع نهر النيل، وتعرفت إلى صناعة السفن وأنواعها، قرأت عن السيطرة العربية على كامل ساحل شرق افريقيا. فزنجبار كانت تحكم ذلك الساحل من دار السلام حتى مقديشو. وفي هذا الفضاء العربي الافريقي، تشكلت اللغة السواحلية التي كانت تكتب بالحروف العربية قبل أن يتدخل الإنكليز ويحولون كتابتها إلى الأحرف اللاتينية عام 1929. لقد فعل الإنكليز كل ما يمكن فعله لاجتثاث الوجود العربي في افريقيا، وآخر أفعالهم تأييدهم لانقلاب زنجبار عام 1964، والمذابح اللاحقة بحق العرب هناك. كما أنهم عندما احتاج الأمر للتراجع أمام مد تصفية الاستعمار في كينيا مثلا، تراجعوا أمام الحركات التي قوامها من الأفارقة، ودمجوا الساحل مع الداخل كي يحولوا العرب والمسلمين المستقرين في السواحل إلى أقلية. لقد كان الهدف اقتلاع النفوذ العربي المسلم في شرق القارة، كي لا يبقى للعرب موطئ قدم في حوض المحيط الهندي، مع العلم أنهم كانوا يدعون الصداقة لعرب زنجبار، فقد قرأت عن الاحتفالات الباذخة التي أقيمت لبرغش سلطان زنجبار أثناء زيارته لبريطانيا، احتفلوا به بطريقة تشبه احتفالاتهم اليوم بملوك وأمراء الدول النفطية. والخلاصة كانت زنجبار أندلس العرب المنسية في افريقيا.

حلمت بأن أزور زنجبار لأشاهد مزارع القرنفل وقصر الأميرة سالمة وأتجول في أزقتها، وأتحدث مع ناسها، وحلمت بأن أقف يوماً في أعلى مكان في مسقط أطل على بحر العرب في حوض المحيط الهندي، لكن كل تلك الأمنيات مثل غيرها من الآمال والأماني لم تتحقق، ولا أظنها ستتحقق يوماً، فقد بت مربوطاً إلى عجلة الحياة اليومية، وفي درج مكتبي جواز سفر صغير لا يصلح لشيء، ورغم ذلك أعاني من صعوبات كثيرة، لا استطيع الحديث عنها الآن، للحصول عليه.
جمع الإسلام في القرن السابع الميلادي العالم المتوسطي مع حوض المحيط الهندي في دولة واحدة وحضارة واحدة، فارتقت حضارة المتوسط لتصبح حضارة عالمية. أما اليوم فقد انحدرت حضارة المتوسط بشماله وبجنوبه فخرجت من دائرة الفعل التاريخي، وتحولت إلى هامش الهامش مع صعود الحضارة الأطلسية وسيطرتها على حوض المحيط الهندي، وقد شاهدنا كيف تعاملت القوى الأطلسية الأنكلوسكسونية، بريطانيا والولايات المتحدة واستراليا، بازدراء مع فرنسا المتوسطية. وحدهم العرب يستطيعون إنقاذ المتوسط وإعادته إلى قلب التاريخ فهم وعبر امتدادهم الديموغرافي والحضاري يشرفون على المتوسط والمحيطين الأطلسي والهندي.
مأساة زنجبار هي مأساة تراجع العرب عن ارتياد المحيطات، وتقوقعهم داخل ذواتهم، حيث أكبر ما يفعلونه هو محاولة صد اللكمات التي يتلقونها. كل تلك التداعيات هاجمتني دفعة واحدة يوم أعلنت لجنة جائزة نوبل فوز الروائي عبد الرزاق غورناه الذي ينحدر من زنجبار بجائزة للآداب لعام2021..

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية