هذا ما يبدو أنه البرنامج الوحيد الذي يعمل نظام الكيماوي في دمشق على تنفيذه. فلا أحد يعرف ما الذي سيفعله النظام بالمدن والبلدات المدمرة والمفرغة من سكانها، في محافظة إدلب، بعد احتلالها. فإذا استأنسنا بالتجارب السابقة سنرى أن شرقي حلب أو الغوطة الشرقية، على سبيل المثال، لم تشهدا عودة للنازحين عنها إلا بنسب منخفضة جداً، وذلك بفعل التضييق الذي تمارسه أجهزة النظام على عمليات العودة، إضافة إلى عدم رغبة النازحين بالعودة إلى جحيم “الوطن الأسدي”. قد يكون البديل عن السكان الأصليين لتلك المناطق المدمرة سكاناً جدد تنطبق عليهم مواصفات “التجانس” المطلوبة بمعانيها السياسية والأهلية والمذهبية، لكن إمكانية تطبيق ذلك تتوقف على إعادة تأهيل تلك المناطق لتكون صالحة للحياة، وهو ما يتطلب موارد كبيرة تعجز عنها إمكانات النظام المختنق في أزمته، وكذا بالنسبة لإمكانات حليفيه الروسي والايراني. أما استجلاب موارد دولية لإعادة الإعمار فهو يشترط حلاً سياسياً، حتى لو كان بمفهومه الروسي، لا يبدو النظام بالذات مستعداً لتأمين موجباته، على ما رأينا تنصله من اجتماعات اللجنة الدستورية على رغم أن حليفته روسيا هي التي قلبت أولويات الحل السياسي المقترح في قرار مجلس الأمن 2254، واستبعدت كأس السم المتمثل في “الانتقال السياسي”، لتصبح اللجنة الدستورية بديلاً عنها.
حتى قرار مجلس الأمن المذكور الذي لا يحقق تطلعات السوريين في تغيير النظام، تنصل منه وزير خارجية بشار الأسد في موسكو، قبل أيام، بعدما كان النظام قد وافق عليه مرغماً حين صدوره في 2015. الحق أن ما عبر عنه وليد المعلم هو الموقف الحقيقي للنظام، أي رفض أي حل سياسي على الإطلاق، ومواصلة الحرب على سوريا إلى النهاية. ما هي النهاية؟ هي استعادة ما كان قبل 15 آذار 2011. لكنه يعرف قبل غيره أن سوريا لن تعود إلى ذلك التاريخ، بل إن سوريا انتهت منذ سنوات، وتحولت إلى أرض مقسمة إلى مناطق نفوذ، وأن “سيادته” على مناطق سيطرة بقايا قواته بالذات باتت في يد روسيا وإيران، وأن التفاوض على مصير سوريا يجري بعيداً عن مشاركته بين ثلاثي آستانة من جهة، ومجلس الأمن من جهة، والأمم المتحدة من جهة ثالثة. حتى مشاركته في اللجنة الدستورية تبرأ منها حين قال رأس النظام إن الوفد الذي أرسله إلى جنيف لا يمثل الحكومة السورية. ثم لم يطق حتى استمرار اجتماعات اللجنة المذكورة بوفده غير المفوض، فانسحب منها.
حين بدأ النظام يستعيد سيطرته على المناطق التي كانت خارج سيطرته، منذ التدخل الروسي المباشر في الحرب في عام 2015، كانت الخطة هي إفراغ تلك المناطق وترحيل سكانها تباعاً إلى محافظة إدلب. وهكذا ازدحمت تلك المحافظة بالنازحين من مختلف مناطق البلاد الذين أضيفوا إلى سكانها الأصليين. ثم جاء الدور على “منطقة خفض التصعيد” هذه المعززة بنقاط مراقبة تركية منعاً للتصعيد بين قوات النظام والفصائل المتمردة المسيطرة عليها. استطاعت تركيا فقط تأجيل الكارثة أكثر من مرة، لكنها وصلت إلى نهاية الطريق في علاقتها المربكة مع موسكو. “منطقة خفض التصعيد مقابل منطقة “نبع السلام” التركية بين تل أبيض ورأس العين” هذا ما يتداوله النشطاء السوريون المعارضون بحق. فهذه المقايضة بين أنقرة وموسكو لها سابقتان تعززان القناعة بحصولها للمرة الثالثة: “شرقي حلب مقابل درع الفرات، والغوطة الشرقية مقابل عفرين”. هكذا تجري الأمور بين الدول! لا أحد يهتم بمصير مئات الآلاف من السكان الذين شاء حظهم السيء أن يكونوا في تلك المناطق موضوع المقايضات الدولية.
في ظاهر حملة النظام وروسيا على منطقة “خفض التصعيد” الأخيرة في محافظة إدلب أن الاتفاق التركي – الروسي في أيلول 2018 الذي أدى إلى وقف هجوم النظام حينذاك، قضى بفتح الطريقين الدوليين بين حلب وحماة، وحلب واللاذقية، لكن الطرف التركي “فشل” في تنفيذ تعهداته، فلجأ الروس مجدداً إلى الحل العسكري، أي تحقيق فتح الطريقين المذكورين بالقوة. أضف إلى ذلك أنه بدلاً من تفكيك “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) الموجودة على قوائم المنظمات الإرهابية، كما تعهدت أنقرة، بسطت “الهيئة” سيطرتها على كامل المحافظة. ولكن بصرف النظر عن هذه الذرائع التي تقدمها موسكو لتبرير حملتها الجديدة، نعود لتلك الحقيقة البسيطة التي مفادها أن استعادة النظام لسيطرته على الطريقين الدوليين أو حتى كامل محافظة إدلب، بعد تدميرها وطرد سكانها “الأشرار” لن تشكل “نهاية الطريق” بالنسبة للنظام الساقط. فما زال أمامه، عسكرياً فقط، مناطق شاسعة خارج سيطرته، بدءاً من ريف حلب الشمالي وصولاً إلى أقصى نقطة عند الحدود السورية – التركية – العراقية. أي أن تسع سنوات من الحرب على سوريا لم تكن كافية لاستعادة السيطرة الميدانية فقط، من غير ذكر لاستعادة أوضاع طبيعية غير موجودة حتى في المناطق التي لم تخرج يوماً عن سيطرة النظام. أضف إلى هذه الحقيقة واقع رفضه لأي حل سياسي، بما في ذلك “الحل” الروسي الذي يهدف إلى استمرار النظام في حكم سوريا، لنصل إلى النتيجة المنطقية الواردة في عنوان هذه المقالة: ليس لدى النظام أي برنامج عمل غير تدمير ما تبقى وقتل من تبقى.