ما كنت لأخوضَ في قضيّة شائكة مثل هذه «الأدب المستعرب»، لولا كتاب «مزامير داود». فقد شرعت منذ الصيف الماضي، في تخريج المزامير، وإعادة صياغتها شعريّا، بطلب من صديق لبناني. كانت عدّتي نصوص المزامير المتداولة، في العربيّة والفرنسيّة تحديدا، ولكنّي لم أجد فيها ـ على أهمّيتها ـ سوى القليل ممّا كنت أَنشُده، أعني المزمور العربي كما رتّله أو أنشده قدماء العرب من المسيحيّين، وسماتِ أدائه الصوتيّة ووقفاته، وما يتعلّق منها بمخارج الحروف وصفاتها من همس وجهر وشدّة ورخاوة وأحكامها. حتّى إذا وقع بين يديّ كتاب حفص القوطي «المزامير» أو «الزبُور» في نسخته الفرنسيّة والعربيّة، أدركت قيمة هذا التراث الأدبي الذي يقع في الهامش من مشاغلنا الثقافيّة.
وحفص هذا كان قد تسنّم كرسيّ قاضي عجم الأندلس في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، وهو أحد كبار المستعربين الذين نقلوا تراث شعبهم إلى العربيّة الفصحى شعرا ونثرا.
ومنه هذه المزامير التي أدارها على الرجز في خمسة آلاف وخمسمئة شطر.وكان هدفه عندما ترجمها سنة 276هـ/889م، أن تحلّ محلّ النسخ النثريّة المتداولة في عصره.
ولا يعنيني في السياق الذي أنا به، أن أقف على الأخطاء والأسقاط العروضيّة التي وقعت فيها محققة الكتاب «دو ماري ـ تيريزا إيرفوا»، فلهذا مجال آخر.
(وهو سليل الفنّ الاسباني المتأثّر بالفنّ الإسلامي، فهو يكاد يكون في ثقافتنا مجهول النسب متّهَم الأصل، بالرغم من Mozarabe أمّا هذا الإرث «الأدب المستعرب»)
أنّه ينضوي إلى الآداب العربيّة المسيحيّة في شرق البلاد العربيّة وغربها. بل لا أثر لهذه الآداب في الشمال الإفريقي مثلا أو بلاد المغرب، وثقافتها من ثقافة الأندلس. وربّما لا تفسير لهذا المسكوت عنه، سوى الخلفيّة الدينيّة كما نفهم من دراسة محمّد الطالبي المنشورة بالفرنسيّة» المسيحيّة المغاربيّة من الفتح الإسلامي إلى الزوال».. ولا أثر كذلك حتى في اسبانيا نفسها، ما عدا شذرات قليلة من شوارد الشعر والأمثال.
وقد أثار ذلك ما أثار عند المعاصرين، من سجال علميّ؛ على نحو ما نجد عند أ.جونس وغارسيا غومز. بل إنّ مجموعة المنتخبات الكبرى ل»ج. غراف» لم تعرّج على هذا التراث الأدبي إلاّ لماما أو عرضيّا في خطف كالنبض ،كما كتبت دو ماري ـ تيريزا إيرفوا.
فضلا عن أنّها لم تضمّ إلاّ نصوصا تتعلّق بشعائر العبادة في الديانة المسيحيّة مثل ترجمة مقاطع من التوراة والمزامير والأناجيل ورسائل القدّيس بولص، وما يتعلّق بها من هوامش وحواشٍ وشروح، وخاصّة الأحكام الكنسيّة أو الشرعيّة الموافقة لأنظمة الكنيسة، أي تلك التي استثمرها على المستوى اللغوي ف. سيمون وهو أحد كبار مؤرّخي الاستعراب الاسباني.
والحقّ أنّه لولا الجهد المحمود الذي بذله بعض العرب والمستشرقين، لكان الزمن قد عفّى على هذا التراث، وطواه النسيان. فقد بدأت كشوفات هي أشبه بالفتوحات الجديدة، تظهر وتبرز منذ الستينات من القرن الماضي، لتغنِيَ معرفتنا المحدودة بهذه الآداب العربيّة المسيحيّة.
ومنها التقويم القرطبي (القرن العاشر وتحديدا عام 961م) الذي كان معروفا في نسخته اللاتينيّة فقط، وهو الآن منشور في أصله العربي وترجمته اللاتينيّة الأقدم (ت. وترجمة شارل بيلا)، وكذلك النص الذي حقّقه ليفي ديلاّ « نصّ مستعرب عن التاريخ العالمي من نهايات القرن 13م إلى فواتح 14 م) وتحقيقه الترجمة العربيّة لحكايات اسبانيّة، وهو نص كان قد ألّفه مسلم أندلسي ومسيحيّ اسباني… وما إلى ذلك من أمثلة أخرى تعزّز كلّها من وجاهة الرأي القائل بوجود أدب اسبانيّ مسيحيّي ناطق بالعربيّة، وتزيد من معرفتنا بهذه الفصحى التي كانت لها السيادة في الأندلس، وبالعلاقات التي نسجتها مع اللغات الأخرى في سلاسة عجيبة، فكانت أشبه بمسطّح عاكس يقع عليه ما يقع منها، في مجتمع أندلسيّ تعدّدت فيه الأديان والأجناس والثقافات، ورَطنَ أهله بكلّ اللهجات.. صورة من كرة باسكال.
٭ كاتب تونسي
منصف الوهايبي