في الأيام الأولى كان صمت الصين وروسيا والبرازيل عن فوز بايدن مفهوما. احتاجت الحكومات بضعة أيام لابتلاع الغصة قبل أن تتمكن من صياغة تلك التصريحات الرسمية التي لا لون لها ولا طعم، والتي تقول إجمالا: إننا قد أخذنا علما. كان صمتا دبلوماسيا لا بد منه. ذلك أن كلا من بوتين وبولسونارو قد فقدا في ترامب صديقا روحيا ورفيقا إيديولوجيّا مناضلا في حركة «الديمقرا-تورية» العالمية: الديمقراطية اللّا-ليبرالية المعادية للحريات والمتلاعبة بالانتخابات.
أما صين شي جنبنغ فإنها فقدت حليفا موضوعيا كان يخدم مصالحها البعيدة المدى بدأب وتفان من حيث لا يدري. ولعل أفضل وصف ينطبق على ترامب في علاقته بالصين هو أنه قد كان يمثل لها «كنزا استراتيجيا» حسب عبارة الرثاء الشهيرة التي شهق بها الإسرائيليون لما فجعوا في حسني مبارك ذات يوم من كانون الثاني/يناير 2011.
أما الصمت المريب، فقد كان صمت بوريس جونسون. إذ أن الأرصاد السياسية البريطانية لاحظت أن الوزيرة الأولى لاسكتلندا نيكولا ستورجن ورئيس حزب العمال كير ستارمر وعمدة لندن صادق خان والوزير الأول لويلز مارك دريكفورد سارعوا جميعهم لتهنئة بايدن على الفور، بينما لم يأت من داوننع ستريت سوى الصمت. طيلة ساعتين أو ثلاث. هكذا انضم جونسون، لبعض الوقت، إلى نادي جنبنغ وبوتين وبولسونارو. ثم إذا بتغريدة التهنئة تأتي لا لتشفع له وإنما لتجعله يضبط متلبّسا بالسقوط في «الأوفسايد». فقد رد عليه تومي فيوتر، المتحدث السابق باسم الرئيس أوباما، قائلا: «ها أن ذلك المتملق المتقلب (استخدم اللفظة الشائعة في الفولكلور الغربي للدلالة على التحول من إنسان إلى حيوان أو العكس) قد أقحم نفسه. إننا لن ننسى تصريحاتك العنصرية بشأن أوباما وتفانيك في التبعية الذليلة لترامب». ثم أضاف هازئا: على أن تقنيات انستغرام (التي استخدمت في الإخراج الفني للتغريدة) تقنيات جميلة!
إلا أن من سوء حظ جونسون أن استخدام هذه التقنيات لم يتمّ بالقدر اللازم من الإحكام. فقد تبيّن للمدققين وجود اسم ترامب وعبارة «ولاية ثانية» في خلفية التغريدة! ذلك أن الحكومة أعدّت تغريدتين مختلفتين تحسبا لكلتا الحالتين. وهذا مفهوم. لكن غير المفهوم هو كيف وقعت الغفلة عن الخطأ التقني الذي أدى إلى اختلاط التغريدة الموجهة لبايدن مع بقايا باهتة من التغريدة التي كانت مجهزة للنشر في حالة فوز ترامب. وهكذا فإن جونسون «جا يكحّلها، عماها» وأضاف سقطة لمسلسل سقطاته مع بايدن والديمقراطيين. أما قول فيوتر «لن ننسى» فذلك أن جونسون كتب في جريدة الصن عام 2016 أن أوباما «رئيس نصف كيني» وأنه ورث عن أسلافه «شعورا بالبغض نحو بريطانيا».
جمع جونسون المجد من أطرافه: إذ قال عنه ترامب مرارا إنه «صديق مقرب» بينما وصفه بايدن بأنه «مستنسخ جسماني ووجداني» عن ترامب!
ومعروف أن لسياسي الصدفة هذا سجلا حافلا بالعبارات العنصرية عن الأفارقة والمسلمين. ومعروف كذلك أن بغض بريطانيا اتهام مجاني راج لدى اليمينيين الانكليز الذين لم يريدوا أن يفهموا أن الأمريكيين صاروا مقتنعين، منذ عهد الرئيس كلنتون، أن مركز الثقل في العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية العالمية قد تحول من أوروبا إلى آسيا ومن منطقة الأطلسي إلى منطقة المحيط الهادي، وأن بريطانيا لم يعد لها وزن يذكر في خضم هذه التحولات العظمى. أي أن هذا الاقتناع قد رسخ في أمريكا عقدين على الأقل قبل أن يعنّ لبريطانيا أن تفعل بنفسها ما يفعل العدو بعدوه فـ»تطلق الرصاص على إحدى قدميها» وتنكمش على نرجسيتها في جزيرتها البركسيتية السعيدة.
ومع هذا فلا شك أن جونسون قد جمع المجد من أطرافه: إذ قال عنه ترامب مرارا إنه «صديق مقرب» بينما وصفه بايدن بأنه «مستنسخ جسماني ووجداني» عن ترامب! وبما أن بايدن يعدّ البركسيت غلطة تاريخية كبرى (سبق لأوباما أن نصح بريطانيا بعدم ارتكابها) وبما أنه أكد أيضا أن أي اتفاق تجاري بين أمريكا وبريطانيا سيظل مشروطا بعدم إقدام بريطانيا على فرض أي حدود أو قيود بين شطري جزيرة إيرلندا (موطن أجداده) فإن البركسيتيين المتزمتين، من أمثال السياسي إيان دانكن سميث والمعلق براندن أونيل، قد أخذوا يسلقونه بألسنة حداد ويطالبونه بأن يلزم حدوده! بل إن أونيل كتب أن بايدن إنما يستخدم إيرلندا سلاحا ضد بريطانيا وأداة في ترسانة الامبراطورية الأمريكية.
على أن هؤلاء لا يستطيعون منافسة جونسون في السقطات. بل إنه سيبقى، بما أوتيه من موهبة الطيش والعبث، هو صاحب القول الفصل في هذا الشأن الإبداعي. والدليل أنه قال لمساعديه، على سبيل المزاح، لمّا بدا أن المرشح الديمقراطي صار على وشك الفوز: «إن بايدن هو أحد قادة العالم القلائل الذين لم أشتمهم»!
كاتب تونسي
بريطانيا كإمبراطورية سابقة من إمبراطوريات العالم القديم ، وبعد فقدانها لمستعمراتها، وتلقي كبريائها لضربة قاصمة بعد هزيمة حرب السويس، أصبحت فقط تدير مرحلة الانحدار، لكن لحسن حظها أنها مازالت تستمد قوتها من اللغة الانجليزية التي احتفظت لها ببعض الاشعاع على مستوى العالم