بدأ عهده راقصاً في السعودية، وانتهى عهده راقصاً على مسرح هزيمته في آخر أيام حملته الانتخابية. انزاح الكابوس، فتاجر العقارات والمقاول «الشاطر» الذي نجح في تسلق رأس هرم الإمبراطورية سقط، ومعه سقطت البذاءة والفجاجة والابتذال والسماجة.
الرئيس الذي صعد على إيقاع أزمات العولمة وخيانات النخب وتوحش النيوليبرالية التي أعادت العالم إلى الصراعات الإثنية والقومية والدينية، سقط أمام أضعف مرشح في تاريخ الحزب الديمقراطي، فالأمريكيون لم ينتخبوا بايدن بل انتخبوا لإسقاط ترامب.
أسس دونالد ترامب مسرح اللامعقول في السياسة الدولية. رجل يكذب طوال الوقت ويتخذ قرارات عشوائية بحسب مزاجه، وحوله مستشار شمعي الملامح هو صهره، ومحاط بعصابة من الصهيونيين الليكوديين وعلى رأسهم سفيره في إسرائيل دافيد فريدمان، الذي حمل معولاً ونزل تحت الأرض بحثاً عن هيكل سليمان!
سياسة ممزوجة بالخرافات والأساطير الدينية، كراهية للملونين من سود وهيسبانيين وعرب ومسلمين، ذكورية متوحشة في بذاءتها، ورجل يتلهى بالتغريد وبالهجوم على حرية الرأي والصحافة. صوّت له عدد كبير من الفقراء البيض الذين يحتقرهم، وقاد بلاده إلى كارثة وباء كورونا بلا أقنعة، لأنه يزدري العلم، ولا يأبه بقدسية الحياة.
وفي النهاية نجحت «المؤسسة»، في لفظ ترامب. فالرجل لم يعد يُحتمل على كل الأصعدة، وكان لا بد من إزاحته كي لا ينزلق النظام السياسي الأمريكي إلى الخراب.
لم يأت دونالد ترامب من لا مكان، ولم يسقط عبثاً.
فالرجل صعد كتعبير عن أزمة اقتصادية وسياسية وأخلاقية صنعتها النيوليبرالية. وهو لم يمارس السلطة بل امتطاها، مجسداً ما لا يُقال. فالرجل قال كل المُضمرات في النظام الرأسمالي، كشف العنصرية والكراهية وازدراء الفقراء. وهي ثوابت حرص النظام على إخفائها. فأتى ترامب في لحظة تأزم ما بعد الحداثة ليكشف المستور ويتفاخر به. فصار صوتاً تلقفته العنصرية والعمال البيض الذين وجدوا أنفسهم في قلب التخبط والفقر، وعبّر عن قلق المناطق الريفية التي لم يتسع لها النظام، ووجدت نفسها خارج لغة النخب المهيمنة.
مثّل دونالد ترامب لحظة انهيار القيم الأخلاقية في مجتمع سياسي أمريكي غطّى جرائمه بحجاب قيم حقوق الإنسان والديمقراطية. فالرئيس كان حليفاً علنياً للديكتاتوريات والقتلة من ملوك النفط، وكان مشغوفاً بخطاب الإنجيليين الصهاينة، فصار نتنياهو مرآته التي يرى من خلالها العالم وقد غطاه خطاب ديني يستعد لمعركة أرمجدون الخرافية.
سقوط ترامب جاء تعبيراً عن قدرة المؤسسة establishment على استعادة زمام المبادرة، ووضع الأمور في سياقها التقليدي. فكابوس النزق السياسي قد انزاح، وستسعى الولايات المتحدة للعودة إلى قواعدها القديمة بصفتها الإمبراطورية التي تقود العالم وتمتص ثرواته وتهيمن عليه.
هيمنة بلا لغة تشبيحية، وعودة ليمين الوسط الذي يمثله جو بايدن. أي إلى لغة القفازات ومهارات الديبلوماسية، وضبط للصراعات الداخلية في أمريكا، بحيث لا تنفلت من عقالها مثلما حدث بعد جريمة قتل جورج فلويد التي نفذتها الشرطة بنفَس عنصري فاضح.
بايدن ليس برني ساندرز اليساري الإنسانوي، فالنائب السابق لباراك أوباما كان رجل التسويات، والوسطي الذي يحسن صوغ لغة مشتركة مع عتاة اليمين في الحزب الجمهوري، وصديق إسرائيل الذي يريد للدولة العبرية أن لا تكشف عنصريتها على طريقة نتنياهو. فالعنصرية الصهيونية ستستمر ولكن بقفازات تغطي حقيقتها بكلام عن السلام.
ورغم علمنا بأن القليل سوف يتغير، وبأن منطقتنا سوف تبقى أسيرة الحلف المطلق الأمريكي الإسرائيلي، فإننا شعرنا بقليل من الفرح، وسط مناخات الكآبة التي تحاصرنا.
لم يسبق للمنطقة وحكامها وشعوبها أن أهينت بهذه الفظاظة واللامبالاة والاحتقار.
قد نقول إن دونالد ترامب كشف حقيقة ممالك الملح والكاز ومحميات الخليج، وبرهن خلال أربع سنوات ما كان بحاجة إلى كشف داخل مخابئ التعفن. فجأة وبرقصة في السعودية شفط 450 مليار دولار. قال للملك السعودي ادفع كي تبقى على عرشك، فدفع الرجل مطاطئاً، ثم قال لدولة الإمارات ومملكة البحرين أنه في حاجة إلى نصر ديبلوماسي، يساعده في الانتخابات الرئاسية. لم يطلب منهما سوى كشف حقيقة تعاونهما مع إسرائيل. فهرع وزيرا خارجية البلدين إلى واشنطن، وتمتعا بصحبة نتنياهو، معلنين أن الأنظمة التي تسعى إلى الهيمنة على العالم العربي ليست سوى مجموعة من الأتباع الذين يحتاجون إلى أمريكا وإسرائيل كي يبقوا في السلطة.
قال ترامب للفلسطينيين أن لا دولة، بل مجرد معازل تطوقها إسرائيل، صحيح أننا كنا نعرف ذلك، ونعرف أنه لم يبق من عملية السلام سوى عملية فارغة من المضمون، لكن صفاقة صفقة القرن ولغتها التي تتبنى الرواية الإسرائيلية كاملة غير منقوصة، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بضم الجولان، جعلتنا نشعر بالهوان.
ذهب ترامب ولن يبكي على أطلال فقاعته سوى إسرائيل والمستبدين العرب.
في إسرائيل نجد ما لا نجده في أي مكان آخر في العالم. سبعون بالمئة من الإسرائيليين يؤيدون ترامب، بحسب استطلاع أجراه مركز ميدفيم الإسرائيلي. ترامب يتفوق على نتنياهو وعلى جميع السياسيين الإسرائيليين في دولة الاحتلال. فأكثرية الإسرائيليين وجدت في سوقية ترامب وعنصريته وخطابه المبتذل صورتها، بحسب المعلق الإسرائيلي جدعون ليفي.
تستطيع إسرائيل أن تتأقلم بصعوبة مع بايدن، وستدفع ثمناً كبيراً من عنجهية خطابها السياسي، وتطاوس رئيس حكومتها. أما في ممالك النفط ومشيخات الكاز والدول الخاضعة لاستبداد العسكر، فلا مجال لاستطلاعات الرأي، لأن هذه الأنظمة ألغت الرأي. ومع ذلك، أستطيع أن أتخيل حزن أمير المنشار ورعبه، وهلع الزاحفين إلى إسرائيل، وهم يشهدون سقوط نبي الكذب في أمريكا.
ودَّع الأمريكيون ترامب بما يستحقه من اللعنات ومظاهر الفرح والسخرية، أما في بلادنا المنكوبة بترامبات متنوعة الأشكال، تسرقنا وتتحكم بنا وتذلنا وتزدري آلامنا، فإن فرحنا سرعان ما سيتبدد.
نعود إلى واقعنا كي نكتشف أن هذا الانهيار العربي يحتاج إلى تغيير جذري، وعلينا أن نتلمس طريقنا إلى إزاحة ترامبات الاستبداد والاحتلال بالدم والألم.
لا تعليق لان المقال قال وعبر عن كل شئ في قلوبنا.
مقال رائع بكل فقرة من فقراته.
بالمناسبة، أخ إلياس، يعجبني أنك استخدمت هنا اصطلاح “مسرح اللامعقول”، في توصيف سياسة ترامب الخارجية، بدلا من اصطلاح “مسرح العبث” في توصيف سياسة لبنان الداخلية في مقالك الماضي “مسرح العبث اللبناني” في منتصف أيار الفارط.. !!
كما كتبتُ هناك، أكثر رواد التيار المسرحي المسمى بـ”مسرح العبث”، من أمثال صامويل بيكيت ويوجين يونسكو وآرثر آداموف وغيرهم، لم ترق لهم هذه التسمية إطلاقا لما تتضمنه من تضمينات استعمارية وعنصرية كذلك.. وأول من استعمل هذا الاصطلاح /اصطلاح “مسرح العبث”/ هو الناقد المسرحي والمنتج الإعلامي البريطاني-الهنغاري مارتن إيسلن، في كتابه المعنون بنفس تسمية هذا الاصطلاح، “مسرح العبث”، في مطلع الستينيات من القرن الماضي.. ويستند هذا الكتاب استنادا رئيسيا إلى أفكار الفلسفة “العبثية” عند كامو /خاصة المطروحة في كتابه “أسطورة سيزيف”/،كفكرة أن العالم “عبثي” ولا معنى له ولا جدوى منه إلخ، بالإضافة إلى بعض من أفكار الفلسفة “الوجودية” عند سارتر، كفكرة الاختيار وفكرة الحرية وفكرة المسؤولية، إلخ.. !!
شكراً على هذا المقال الرائع عندما وضعت اصبعك على الجرح حيث قلت ما كان يجول بخاطرنا قوله .
مقال في الصميم. شكرا
مقال رائع، “اقتنص” مني بجدارة جسورة كل ما كان يجيش في صدري لأيام بل لأشهر همسات. تحيتي وتقديري لك ولقلمك الرشيق. ونتطلع للمزيد.
أوضح، بل أفصح ما في هذا المقال الجميل، قول الكاتب، ” لم يأنت دونالد ترامب من لا مكان، ولم يسقط عبثاً.”
ترمب أميركي جاء على حصان كل الموبقات، ليخاطب اناس آمنوا ويؤمنون، بل يتبنون هذه الموبقات، تقريبا نصف شعب الدولة الأولى في العالم، صدق أو لا تصدق. هذا هو اللامعقول بكليته. “ولم يسقط عبثا” لأن ما اسقطه ليس عقلا، بل نكاية، وعليه يكون انتخاب بايدن (فشة خُلق)، لا علاقة لها بالعقل. إذا نحن في دائرة الامعقول نفسها
لولا أن ترمب جاء من بيئة تؤمن بالموبقات وتمارسها حكرا، لما وصل هذا المجتمع، إلى إنتخاب نسخة باهتة من التربية الفاقعة.
نعم، نحن في زمن الامعقول المؤلم.