لم يتوقف صحافيو الإعلام الفرنسي عن طرح هذا السؤال على ضيوفهم: هل أنت متفاجئ من فوز دونالد ترامب في هذه الانتخابات؟ اختلف الجواب لكن الجو العام كان منتظرا ومختلفا معا، حسب أي ضفة من المحيط الأطلسي تتحدث، وأيضا من أي منبر.
بكل تأكيد، الطبقات المتوسطة لم تتفاجأ، والكثير هنا يحن إلى زمن ما قبل كورونا، حيث كان الاقتصاد يعرف فترة ازدهار وانتعاش لقيت إجماعا شعبيا لم يضاهه مثيل، أو بالكاد خلال الولايات الرئاسية الأمريكية المتعاقبة. كذلك فإن المحللين والمراقبين الأمريكيين، لم يتفاجأوا، بل كان هناك شبه إجماع سمعناه حول الآثار الكارثية لسياسة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الليبرالية، على ما يعرف بحزام الصدأ (Rust Belt)الذي يضم ثلاث ولايات متأرجحة (ويسكونسن، ميشيغان وبنسلفانيا). هنا، استرجع ترامب التصويت الشعبي الذي كان قد فقده في زمن كورونا. وبدأ يظهر أكثر فأكثر اتجاه تصويت جديد يقلب الأوراق، تصويت الفقراء لصالح اليمين على حساب اليسار. فأغلب الأصوات التي حازها الديمقراطيون في هذه الانتخابات الأخيرة كانت من الطبقة الغنية.
أما على الضفة الأخرى من المحيط، فهل كان هناك تفاجؤ فعلا؟ الأحرى والأسلم أن نقول إنه كان مصطنعا. كثيرون هم من صمتوا على قرار جو بايدن التراجع عن الترشح المتأخر جدا.. كما لم يكن لدى هؤلاء أي اعتقاد بأن اصطفاف مترشح على الانتخابات التمهيدية (primary elections) يمكن أن يكون ناجحا. وفوق هذا وذاك، بات التزام كامالا هاريس بالقضايا النسوية، خاصة الإجهاض، سلاحا ذا حدين، خاصة لدى أقليات اللاتنوس التي – على الرغم من توجهها التقليدي للتصويت الديمقراطي، غيرت في غالبها وجهة التصويت، اعتراضا على اتخاذ كامالا هاريس موقفا يعتبره اللاتنوس راديكاليا فوق اللازم. ليست هناك مدعاة للدهشة، إذا نظرنا إلى المكونات السوسيولوجية للمجتمع الأمريكي. كان تصويت الطبقات المتوسطة لصالح ترامب متوقعا. تصويت نادل المقهى وعامل التنظيف وسائق الشاحنة ومنظفة البيت وغيرهم، فما يهم هؤلاء فوق كل الاعتبارات الأخرى، رفع الأجور وخفض الضرائب. وكأن مقولة رونالد ريغان الرئيس الأمريكي السابق الشهيرة «إقرأ على شفتي… لا رسوم (!Read on my lips no taxes!) قد وجدت طريقها إلى الترجمة بصيغة مستحدثة محينة، في عالم تؤطره شبكات التواصل الاجتماعي، وإبداع رقمي بلا حدود يساهم هو أيضا في نحت معالم «إصنع أمريكا عظيمة مرة أخرى».
كان تصويت الطبقات المتوسطة لصالح ترامب متوقعا. تصويت نادل المقهى وعامل التنظيف وسائق الشاحنة ومنظفة البيت وغيرهم، فما يهم هؤلاء رفع الأجور وخفض الضرائب
لكن ما لم يكن متوقعا هو نسب التصويت الضئيلة، خاصة عند الديمقراطيين، مقارنة بانتخابات 2020. هنا، تتعزز ظاهرة الامتناع عن التصويت التي بتنا نشاهدها منذ أعوام عبر العالم بأسره، خاصة عند الطبقة المرفهة. وهنا أيضا يبرز معطى جديد تثبته الدراسات السياسية وهو ذهاب الطبقات المرفهة إلى التصويت لصالح التشكيلات اليسارية بأنواعها. علاقات إدارة ترامب المتوترة والمتعددة الأبعاد مع المجموعة الأوروبية معروفة، لكن ماذا عن العالم العربي؟
نتذكر أن إدارة ترامب صانعة الاتفاقات الإبراهيمية، التي نظرت إليها عدة دول عربية، خليجية خاصة، بعين ثاقبة. هنا يجب الإشارة إلى موقف المملكة العربية السعودية، التي تشترط إقامة دولة فلسطينية للمضي في التطبيع مع إسرائيل، ويجدر في هذا السياق الإشارة إلى تصريحات الكاتب والمحلل السياسي حسن منيمنة في مقابلة مع قناة «بي بي سي» إذ يقول: «إن الطرف الأقوى في هذه المعادلة هو الرياض وليس واشنطن، لأن تنويع خيارات الرياض في تزايد (في إشارة إلى اتجاهها نحو الصين وروسيا)، معتبرا أن «كل تأخير في توقيع الاتفاقية سيضعف الحاجة السعودية إلى اتفاقية من هذا النوع.»
ليس وصول إدارة ترامب مجددا إلى سدة الحكم بمفاجأة. لكن المفاجآت المقبلة قد تكمن في تركيبة إدارة ترامب الثانية، خاصة بعد وصول سوزان وايلز إلى منصب كبير موظفي البيت الأبيض. وايلز التي عملت في إدارة رونالد ريغان في الثمانينيات، أول امرأة تحتل هذا المنصب. وحسب قناة «الحرة» الأمريكية تقول في تعريفها عن نفسها «إنها تزدهر تحت الضغوط»، و»تدرج التفكير النقدي كأحد أهم التخصصات التي تبدع فيها». عملت وايلز من جاكسونفيل على إنجاح كسب ترامب الولاية سنتي 2016 و2020. كنت في جاكسونفيل سنة 2016 ودعيت إلى حفلة في مقاطعة «دوفال»، مقاطعة جاكسونفيل الإدارية الرئيسية. هنا، استقبلتنا سيدة بدت لي مضيافة وحازمة معا، يتضح من كلامها أنها مستعدة لخوض مشاريع كثيرة. لا استطيع، ويلفني غموض الذكرى، الجزم بأن كانت هي، لكن الترجيح وارد، بل وارد جداً. ما يجعلني أردد أكثر من أي وقت مضى بأن الأيام بيننا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي