كتبت صحافية عربية تعقيباً على قرار ترامب ترشيح النائب الجمهوري مات غيتس من ولاية فلوريدا لمنصب المدعي العام في إدارته الجديدة: «إن اختيار شخص يخضع لتحقيق أخلاقي لشبهة إقامة علاقة جنسية مع قاصرة لمنصب المدعي العام يعد غلواً، حتى بمقاييس الشرق الأوسط». والعبارة الأخيرة البائسة في هذه التغريدة، تتكرر على ألسنة كثيرة في متلازمة تفترض أن بقعة جغرافية ما، وهي الشرق الأوسط في أغلب الأحيان وأماكن أخرى من جنوب العالم، تحتكر الفساد والعنف وكل ما هو سلبي في الطبيعة البشرية وتصدّره إلى الغرب.
ونجد هذا الجهل أو التغابي والتعامي، الذي يعكس عنصرية متجذّرة، لدى صحافيين ومعلقين أمريكيين يكتبون بعد كل عمل إرهابي، أو عنف يقترف داخل الولايات المتحدة «ما كان يحدث في الشرق الأوسط وصل الآن إلى ديارنا!» وتتطلب مقولات ومواقف كهذه إنكاراً لتاريخ وحاضر أسّسه وأدامه العنف المستمر، لكن العنف لا يلفت انتباه الليبراليين، إلا حين يضرب شرائح معينة، من عرق أو طبقة، وضعها ويبقيها عنف تاريخي مهول، على رأس هرم القيمة البشرية. أما الصحافية المذكورة فقد تكون تعاني من عقدة دونية، أو هي تقوم بدورها الببغائي، مثل غيرها من الكثير من صحافيي العاصمة واشنطن.
الأوليغارشية ليست جديدة على الولايات المتحدة، بل إن تاريخ البلاد منذ بداياته، يمكن أن يعد صراعاً مستمرّاً بين الأوليغارشية والديمقراطية
أثارت الأسماء التي رشحها ترامب لمناصب في إدارته الجديدة الاستغراب والاستهجان، حتى في أوساط الحزب الجمهوري. فخياره لمنصب وزير الدفاع، بيت هاغساث، فاجأ البنتاغون، فهو يفتقر إلى الحد الأدنى مما يتطلبه المنصب من الخبرة. فهو إعلامي من شبكة فوكس اليمينية، سبق أن حارب في العراق وأفغانستان، وعمل في سجن غوانتانامو سيئ الصيت، ولكنه ترك الجيش مدعياً أن الجيش حاربه بسبب آرائه السياسية والدينية، وكان هاغساث قد نشر كتاباً حقق مبيعات عالية عنوانه «الحرب ضد المحاربين» هاجم فيه مؤسسة الجيش، واتهمها بالتطرف اليساري، ودافع عن الجنود المتهمين بارتكاب جرائم حرب. وقد نجح في إقناع ترامب أثناء فترته الرئاسية الأولى بإصدار عفو عن عدد من المدانين بجرائم حرب في العراق وأفغانستان. منهم إيدي غاليغر، الذي أدين بارتكاب جرائم حرب بشعة ضد المدنيين في الموصل. كما عفا ترامب عن جنديين كانا قد أدينا بالقتل وأمر بإعادة رتبة لجندي ثالث كان قد التقط صوراً مع جثة مدني عراقي، وشمل عفو ترامب أربعة من مرتزقة بلاكووترز الذين أدينوا بقتل 14 مدنياً في مجزرة ساحة النسور في بغداد عام 2007. وهاغساث إنجيلي متطرّف، يحدد الكتاب المقدّس رؤيته للقضايا السياسية، ومنها فلسطين، بالطبع. وقد وعد بفصل عدد من الجنرالات في حال تسلمه منصب وزير الدفاع. وظهرت في الأيام الأخيرة تقارير تثبت أنه متهم باعتداء جنسي ضد امرأة ودفعه لها مبلغاً لتلافي رفع دعوى قضائية.
أما منصب سفير الولايات المتحدة في إسرائيل فسيكون من نصيب مايك هاكابي، حاكم ولاية آركنسا السابق، وهو قسيس متطرف من المسيحيين الصهاينة، سبق له أن ترشح عن الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة في 2008 و2016. لا يعترف هاكابي باحتلال إسرائيل للضفة الغربية، التي لا يقبل إلا أن يسميها «يهودا والسامرة». ولا يعترف بوجود المستوطنات الإسرائيلية ولا بوجود الفلسطينيين.
ويعتزم ترامب استحداث وزارة جديدة «الكفاءة الحكومية» التي سيتولاها صديقه الجديد أيلون ماسك، أثرى إنسان في العالم، وفيفك راماسوامي، مليونير آخر وأحد منافسي ترامب السابقين في الترشيح للرئاسة، قبل أن ينسحب ويدعم ترامب. وكان ماسك قد ألقى بكل ثقله في الأشهر الأخيرة خلف حملة ترامب وتبرع بـ118 مليون دولار لحملته الانتخابية. وقد أعلن راماسوامي وماسك عن عزمهما تقليص حجم الحكومة الفدرالية الضخمة، وإلغاء وكالات بأكملها. وقد وعد ترامب بتقديم إنجازات الوزارة الموعودة هدية في الرابع من يوليو 2026، بمناسبة مرور 250 سنة على تأسيس البلاد. ووصول ماسك إلى الحكومة الفدرالية ليس إلا واحداً من أعراض كثيرة، لوحظت في العقود الأخيرة، لمدى سيطرة الأوليغارشية على النظام السياسي في الولايات المتحدة. ولعل شعار ترامب الشهير «فلنجعل أمريكا عظيمة ثانية» لا يجانب الصواب في هذا السياق. فالأوليغارشية ليست جديدة على الولايات المتحدة، بل إن تاريخ البلاد منذ بداياته، يمكن أن يعد صراعاً مستمرّاً بين الأوليغارشية والديمقراطية. وهناك مؤرخون يعتبرون أن بداية الأوليغارشية كانت في 1619 حين رست أول سفينة تحمل 20 مستعبداً على الساحل الشرقي للقارّة. وكان «الآباء المؤسسون»، مالكو العبيد والأراضي، فعلياً أول طبقة أوليغارشية. فالسواد الأعظم من المستوطنين البيض آنذاك كان من الفلاحين أو العمّال، أما السود، الذي شكلوا 20% من سكان البلاد، فكانوا مستعبدين. والسكان الأصليون خارج المعادلة.
أما الأوليغارشية الثانية فقد برزت في نهاية القرن الثامن عشر مع ظهور طبقة العوائل الشهيرة (روكفلر وكارنغي وميلون وغيرها) ذات الثراء الفاحش، التي كانت تسيطر على الاقتصاد الأمريكي، وتملك شركات سكك الحديد ومعامل الصلب وشركات النفط ومصارف الاستثمار. وأدى الاحتكار والاستغلال الهائل والسيطرة على السياسة إلى تفشي الفساد واستشراء الفقر وتفاوت طبقي هائل. انحسرت ثروات هذه النخب بعد الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين وساهمت سياسات وبرامج فرانكلين روزفلت (1882 – 1945) في الثلاثينيات وما يعرف بـ«الصفقة الجديدة» في إنعاش الاقتصاد وإغاثة الفقراء وإضعاف الأوليغارشية.
في الثمانينيات، برزت الأوليغارشية الثالثة، في عهد رونالد ريغان. كانت نسبة ضريبة الدخل على الأعلى دخلاً حوالي 90% في الستينيات والسبعينيات، وكان هذا يحفز كبار الأثرياء على إبقاء أموالهم في شركاتهم ومصالحهم ودفع رواتب مناسبة للعمال والموظفين، وأدى هذا إلى نمو غير مسبوق للطبقة المتوسطة. لكن ريغان أوفى بوعوده بخفض الضرائب، فهبطت من 73% إلى 28%. وهي الأوطأ منذ عام 1925. قبل ثلاث سنوات نشر موقع « بروببلكا» ملفاً مهماً يحلل كمية هائلة من وثائق خدمة الضرائب الداخلية لـ15 سنة تبيّن تهرّب الأثرياء من الضرائب وعدم دفعهم دولاراً واحداً في كثير من السنين، حسب ملفات الضرائب السنوية.
معدل ما يدفعه المواطن العادي من ضريبة الدخل هو 14% من الدخل السنوي. وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 35% حين يزداد الدخل. لكن الأثرياء يدفعون أقل بكثير ويستغلون الثغرات الموجودة في القوانين. أما أصحاب البلايين فقد لا يدفعون دولاراً واحداً. على سبيل المثال، لم يدفع جيف بيزوس، صاحب شركة أمازون أية ضرائب بين 2007 و2011 واستغل ثغرة في قوانين الضرائب للحصول على استثناءات من ضريبة الدخل، شرعت أصلاً لحماية محدودي الدخل، وليس الأثرياء. وأيلون ماسك هو الآخر لم يدفع أي شيء في 2018. ووصل التفاوت الطبقي والهوة بين الأغنياء والفقراء في السنين الأخيرة إلى معدلات غير مسبوقة، فحسب تقرير مكتب ميزانية الكونغرس، فإن الـ10% الأكثر ثراء في البلاد يسيطرون على 60% من الثروات. بينما يمتلك 50% من المواطنين 6% من ثروات البلاد. بالإضافة إلى تركز الثروات الهائل لدى طبقة الأثرياء، فإن هذه الطبقة تمارس تأثيراً هائلاً على الحملات الانتخابية وعلى نتائجها عبر التبرعات. وكان قرار المحكمة العليا عام 2010 المعروف بـ«مواطنون متحدّون» قد رفع الحظر على تبرّعات الشركات الكبرى للحملات السياسية، ما سمح بتدفق ملايين الدولارات عبر ما يسمى لجان العمل السياسي الكبرى. وقد حذر السناتور بيرني ساندرز مرة أخرى قبل أيام من أن المجتمع الأمريكي يتجه إلى الأوليغارشية بسرعة. يذكر توم هارتمان في كتابه «التاريخ المخفي للأوليغارشية الأمريكية» إن «الأوليغارشية ليست نظاماً سياسيا أو اقتصاديا مستقراً، بل هي دائماً نظام انتقالي، محطة انتقال من الديمقراطية إلى الفاشية أو إلى شكل من أشكال السلطوية».
كاتب عراقي