ترامب والتدمير المتعمد لمنظومة العمل الدولي

يستمع العالم يوم الثلاثاء المقبل الخطاب الثاني للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام ممثلي المجتمع الدولي بكامله، في الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة. ونتوقع أن يكون استقباله هذه المرة أكثر برودا من العام الماضي، بعد أن انسحب من عدد من المنظمات الدولية والمعاهدات والاتفاقيات، وبدأ يقطع المساهمات الأمريكية عن عدد من المنظمات والصناديق والبرامج.

ففي خطبته السابقة هدد بإزالة كوريا الشمالية عن الوجود، وقال إن شعاره “أمريكا أولا”. وفي خطابه هذا العام قد يتفاخر بأنه يعمل على إزالة فلسطين من الوجود، بعد الخطوات التي اتخذها، خاصة في مجال قطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية ووكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) والمستشفيات وحتى برامج التطبيع. لكن خطط ترامب أبعد من ذلك فهو يعمل على تحطيم عدد من المنظمات الدولية التي لا تنصاع لأوامر الدولة العظمى. فإن لم يستطع التحطيم يقرر الانسحاب ونستعرض خطط ترامب للتأثير على منظومة الأمم المتحدة عن طريق أسلوبي الانسحاب أو حجب الأموال.

الانسحاب من المنظمات والمعاهدات الدولية

وعد ترامب أثناء حملته الانتخابية إعادة النظر في العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والانسحاب من تلك التي لا تنسجم مع مفهومه الضيق لمصالح الولايات المتحدة الحيوية، حتى لو كان الناتو أو اتفاقية التجارة الحرة مع الجارتين كندا ومكسيكو “نافتا”.

– ففي 12 أكتوبر/تشرين الأول المقبل سيعلن ترامب انسحابه من منظمة التربية والثقافة والعلم (يونسكو) ومقرها باريس، التي تأسست عام 1945 وتعمل على نشر التعليم وتبادل الخبرات العلمية والتقنية، وحماية المعالم الأثرية ذات القيمة الإنسانية مثل، “تاج محل” بالهند و”الأهرام” بمصر والـ”غراند كانيون” في الولايات المتحدة و”آثار بابل” بالعراق وغيرها. وكان الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان قد انسحب من اليونسكو عام 1984 بحجة أنها قريبة من الاتحاد السوفييتي، ثم عادت الولايات المتحدة عام 2002  إليها في عهد الرئيس بوش ليجلب تأييدا دوليا لغزو العراق، ثم أوقف الرئيس أوباما التمويل عن اليونسكو عام 2011 من دون الانسحاب من المنظمة بسبب اعترافها بفلسطين دولة كاملة العضوية. الآن ينسحب ترامب من المنظمة، لا لأزمة بين الولايات المتحدة واليونسكو، بل انصياعا للرغبة الإسرائيلية، بعد قرارات اليونسكو اعتبار الحرم الشريف في القدس تراثا إسلاميا فقط، وكذلك المدينة القديمة في الخليل، التي تشمل الحرم الإبراهيمي.

– كما انسحبت إدارة ترامب من مجلس حقوق الإنسان، ومقره جنيف، في 19 يونيو/حزيران 2018 بسبب انتقاد المجلس لإسرائيل أساسا، فليس للمجلس خلاف جذري مع الولايات المتحدة. صحيح أن المجلس انتقد بعض المسلكيات الأمريكية كالإفراط في استخدام القوة ضد الأمريكيين من أصل إفريقي، وفصل الأطفال عن آبائهم من المهاجرين غير الشرعيين، إلا أن السبب الحقيقي هو الانتقادات التي يوجهها المجلس أحيانا لإسرائيل، وتشكيل لجان تحقيق مستقلة للتحقيق في جرائمها. ونشير في هذا السياق لتهديد مستشار الأمن القومي، جون بولتون، بالتصدي للمحكمة الجنائية الدولية وملاحقة قضاتها إذا بدأت التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية.

– انسحبت إدارة ترامب في الأول من يونيو 2017 من اتفاقية باريس للمناخ، بحجة أنها تضر بالمصالح الأمريكية. واتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 تعتبر إنجازا عالميا لحماية كوكب الأرض من الاحتباس الحراري والتلوث من أجل الأجيال القادمة. وقد لقي هذا الانسحاب موجة عارمة من الإدانة والاستنكار والاستهجان، خاصة من أنصار حماية البيئة ورجال الأعمال والقادة الدينيين والعلماء والمواطنين العاديين.

– انسحب ترامب في 8 مايو/أيار 2018 من الاتفاقية الشاملة التي وقعتها الدول الخمسة زائد ألمانيا مع إيران حول أنشطة إيران النووية. وللعلم فإن مجلس الأمن الدولي رحب بالاتفاقية واعتمد القرار 2231 (2015) بتاريخ 20 يوليو/تموز 2015 وبالتالي تحول الاتفاق إلى وثيقة دولية معتمدة من مجلس الأمن الدولي تحتم مراجعة التزام إيران بمنطوق القرار دوليا، والتي تراقب تنفيذه الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن الدول الأخرى لم تنسحب من الاتفاقية رغم الضغوط والتهديدات والعقوبات.

 سياسة ترامب الانعزالية ستزيد من عزلة الولايات المتحدة واتساع دائرة المنتقدين له  في خارج أمريكا وداخلها

قطع المساعدات الطوعية أو تخفيضها

ليست الأونروا هي الوكالة الدولية التي استهدفها دونالد ترامب بقطع كافة المساعدات المالية من أجل تجفيف أحد مصادر التمويل الرئيسية وبالتالي تدميرها. فقطع المساعدات عن الأونروا يدخل ضمن سياق الضغط على الفلسطينيين بهدف استسلامهم والرضوخ للرؤية الإسرائيلية المغالية في تطرفها حول ما يسمى “صفقة القرن”.

لكن ترامب سيذهب بعيدا في مسألة قطع المساعدات كليا أو جزئيا عن العديد من المنظمات الدولية. فقد قرر، حسبما جاء في ميزانيته المقترحة المقدمة للكونغرس، تخفيض قيمة المساعدات المخصصة للشؤون الدولية بنسبة 30% لينزل بحجم المساعدات إلى 41.7 مليار فقط مقارنة مع السنة الماضية التي كانت بحدود 60 مليار دولار. تقترح الميزانية الجديدة التي قدمها البيت الأبيض للكونغرس تخفيضات كبيرة في قطاعات التنمية والشؤون الإنسانية والشؤون الدولية غير العسكرية. وتشمل الاقتطاعات المالية، الوقف الكامل للتمويل الأمريكي لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، وهي المنظمة المتخصصة في شؤون صحة الأطفال ورفاههم، خاصة في المناطق الفقيرة والأكثر ضعفاً في العالم. فحوالي 45% من جميع الأطفال في العالم يتلقون اللقاحات من وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، بما في ذلك اليونيسف. وقد أدت اللقاحات التخلص من أمراض خطيرة مثل شلل الأطفال والحصبة وأنقذت ملايين الأرواح على مدى العقود الماضية. وقد ظلت الولايات المتحدة أكبر مساهم في ميزانية المنظمة خلال سنوات عملها الطويلة. وكانت اليونيسف أحب المنظمات الدولية إلى قلوب الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بحيث ظلت وظيفة المدير التنفيذي لليونيسف حكرا على الولايات المتحدة من أول مدير تنفيذي، موريس باتي، إلى المديرة التنفيذية السابعة الحالية هنريتا فور.

فقد بلغت مساهمات الولايات المتحدة الطوعية في ميزانية اليونيسف لعام 2017 نحو 330 مليون دولار. وقطع هذه المساهمات المالية، فيما لو قبل الكونغرس هذا الاقتراح، سيعود بالضرر على ملايين الأطفال في العالم، خاصة في الدول الفقيرة. كما طالب البيت الأبيض في الميزانية المقترحة بخفض مساهمات الولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية بنسبة 28% وخفض مساهماتها في الصندوق العالمي المشترك لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية /الأيدز والسل والملاريا بنسبة 31%  وخفض برامج تنظيم الأسرة ضمن صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى النصف.

كما طالب البيت الأبيض بخفض مساهمات الولايات المتحدة من 28% إلى 25%  من ميزانية قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في 11 بعثة، وكذلك في الميزانية العامة للأمم المتحدة نفسها من 22% إلى 20% بناء على حسابات رسمية تقوم بها اللجنة الخامسة، حسب حجم اقتصاد كل دولة ومعدل إنتاجها القومي.  كما تتضمن الميزانية المقترحة المقدمة للكونغرس بندا يطالب بإلغاء الحساب المعروف باسم “المنظمات والبرامج الدولية”، وهي الأداة التي تقدم الولايات المتحدة من خلالها مساهمات لعدد من الهيئات الصحية والإنمائية والإنسانية، بما في ذلك برنامج الأمم المتحدة للبيئة وهيئة الأمم المتحدة للمرأة.

بعض من هذه الاقتراحات قدم للكونغرس في العام الماضي، لكن الكونغرس رفضها لأنه هو الجهة التي تسيطر على الميزانيات وتصريفها. وعلى الرغم من أن الحزب الجمهوري لغاية الآن يسيطر على الكونغرس، إلا أن العديد من أعضاء الكونغرس لديهم فهم متطور لقيمة الأمم المتحدة للمصالح الأمريكية. مرة أخرى، فإن العديد من هذه الطلبات الأكثر تطرفا – مثل خفض التمويل الكلي لليونيسف أو خفض التمويل الأمريكي لمنظمة الصحة العالمية – لن يمر. ويقول بيتر يو رئيس حملة “من أجل عالم أفضل”، في بيان، “أرقام الميزانية المتعلقة بالأمم المتحدة هي تقريبا نسخة طبق الأصل لطلبات العام الماضي، لكن الكونغرس رفض معظمها لأنه يعرف كم تضر هذه التخفيضات بمصالح الولايات المتحدة، ودورها القيادي على مستوى العالم”.

من المؤكد أن هذه الإجراءات في ما لو نفذت أو نفذ بعضها، ستلحق الأذى بمجموع العمل الدولي في الميادين الإنسانية والاجتماعية والصحية، ولكن الشي المؤكد أيضا أن هذه الإجراءات ستزيد من عزلة الولايات المتحدة واتساع دائرة المنتقدين لسياسات ترامب الانعزالية خارج الولايات المتحدة وداخلها. ولا أعتقد أن أحدا يمكن أن ينسى عندما قدمت نيكي هيلي يوم 5 يونيو الماضي مشروع قرار في مجلس الأمن يدين حركة حماس ويحملها مسؤولية الضحايا في مسيرات العودة، ولم تجد يدا واحدة أخرى ترتفع تأييدا لموقفها الشاذ، الذي يعتبر صفعة ليس لها فحسب، بل لهذه الإدارة المتصهينة أكثر من غلاة الصهاينة أنفسهم.

  *محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية